الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحد الفاصل بين الإيمان والكفر **
الحد الفاصل بين الإيمان والكفر مقدمة الطبعة الأولى الحمد لله حمداً يرضيه، من عبد عاجز عن شكره إذ ما من خير إلا بتوفيق منه وإعانة، وبالتوفيق لحمده تتجدد نعمة جديدة تحتاج إلى شكران. والصلاة والسلام على إمام الهدى والرحمة، سيد الأولين والآخرين الذي لا يكمل إيمان إنسان إلا بأن يكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين. وبعد، فلقد اختلط عند كثير من المسلمين أمر الإيمان بالكفر فأصبح بعضهم يطلق لفظ (الكافر) على من لا يجوز أن يطلق عليه.. وهذا أمر خطير جداً لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من قال لأخيه المسلم يا كافر فقد باء بها أحدهما] والمعنى أنه إن كان كافراً حقاً فهي شهادة من مسلم بالكفر على من هو كافر حقاً، وإن كان المسبوب غير ذلك أي لم يكن كافراً فقد رجع الحكم على قائله. وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه] رواه مسلم. وقد رأيت أيضاً من يشهد بالإيمان لأناس ممن ينسبون إلى الإسلام وهم يقولون بألسنتهم، ويعملون ما يشهد عليهم بالكفر ومخالفة جماعة المسلمين. وهذا أيضاً أمر خطير عظيم الشأن لأنه يدخل في أمة الإسلام من ليس منهم، ولأن كثيراً من الفضلاء وطلبة العلم الشرعي الإسلامي يقعون عن جهل في أمور قد حكم الله في كتابه أن فاعلها كافر، وأنها لا تتأتى من مسلم أبداً، وقد رأيت كثيراً من هؤلاء يقعون في مثل هذه الأعمال، فإذا بينت له بالدليل أن ما فعله يعد كفراً، وأنه يحب أن يتوب منه لله تبارك وتعالى تعجب.. وكثير منهم رجع بحمد الله. ولذلك فإني قد رأيت من واجبي توضيح هذا الأمر الخطير في رسالة ميسرة سهلة. ألتزم فيها -بحول الله وقوته- الأسلوب العلمي اللائق بعلاج مثل هذه الأمور الخطيرة، وأسأله تعالى أن يجنبني الهوى، ويعصمني الزلل إنه هو السميع العليم. ولن أعتمد الأساليب العقيمة، والاصطلاحات الكلامية والمجادلات الفلسفية.
فهذه الرسالة لعامة المسلمين الذين يجهلون هذه الأمور الخطيرة والله أسأل التوفيق والسداد. عبدالرحمن عبدالخالق الكويت في 3 جمادى الآخرة سنة 1393هـ الموافق 3 يوليو 1973م
مقدمة الطبعة الثانية الحمد لله الذي بنوره تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبيه، الداعي إلى الهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله سبحانه وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد، وبعد: فإن هذا الكتاب -أخي القارئ- الذي بين يديك كنت قد كتبت فصوله على عجل يوم اشتدت فتنة التكفير وشاعت القالة بأن كل المجتمعات الآن مجتمعات كافرة، وشرع من قالوا هذا القول يجمع كل فرد منهم حوله مجموعة قليلة العدد توافقه على معتقده، وظنت كل مجموعة منهم أنهم وحدهم جماعة المسلمين، وأن غيرهم إما كفار أو مجهولي الهوية والدين، وإن رأوهم يصلون ويصومون ويشهدون أن لا إله إلا الله، بل ويدعون إلى الإسلام ويجاهدون في سبيل الله ما داموا لم يبايعوا أميرهم ويدخلوا في عقيدتهم!! وظن أولئك أيضاً أن حقيقة الإسلام قد ضاعت منذ عصر الراشدين وإلى يوم ظهورهم هم حيث ظنوا أنهم فهموا من الإسلام وطبقوا منه ما لم يفهمه سلف الأمة ويطبقوا، وقالوا أن الزمان استدار كهيئته يوم بعث محمد صلى الله عليه وسلم مبشراً بهذا الدين، فكما أنه بعث في أقوام من الكفار يدعون إلى الهداية في الدين ولم يكونوا كذلك، فكذلك هم قد خرجوا في كفار يدعون الإسلام وليسوا بمسلمين!! وكان لهذا الكتاب بحمد الله أثر بالغ في قمع هذه الفتنة العمياء فقد عصم الله به كثيراً من شباب الجيل الإسلامي المعاصر، وهدى الله به من شاء له الهداية، والحمد لله على منه وتوفيقه. وكذلك هدى الله بهذا الكتاب والحمد لله وحده خلقاً كثيراً ممن اكتفوا بالنسبة للإسلام فقط ولم يقيموا الإيمان الواجب والشريعة الواجبة، فشرعوا يدخلون في الدين دخولاً حقيقياً. وكنت أتمنى منذ أن كتبته أن ييسر الله أن ألحق به فصلاً هاماً، وهو موقف المسلم من إخوانه المسلمين، أعني وجوب الموالاة بين المؤمنين، وكذلك موقفه من الكافرين على اختلاف مواقفهم من المسلمين، أعني وجوب البراء من الكافرين، وقد يسر الله أن ينزل هذا الفصل في رسالة مستقلة بعنوان (الولاء والبراء). وقد جاء الوقت بحمد الله الذي يسر الله فيه جمع هاتين الرسالتين في رسالة واحدة، وبهذا يتضح السبيل لإخواننا في التمييز بين المسلم والكافر، وحقيقة الإيمان وحقيقة الكفر، وفي كيفية موالاة المسلم لأخيه المسلم، وكيفية براءته من الشرك والكفر وأهله. وعلى عادتي حاولت ما أمكنني أن أكتب بأيسر عبارة مستطاعة لي ليفهم هذه الحقيقة أكبر عدد ممكن ممن يقرؤها. هذا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يقينا وإخواننا المؤمنين سبل الغواية وطريق المتنطعين الهالكين والمفرطين الضالين، والحمد لله رب العالمين. بنها: السادس من رمضان المبارك سنة 1401هـ الموافق 8/7/1981م عبد الرحمن عبد الخالق قبل عرض القضايا التي سيتحدد الحكم بعدها لا بد أولاً من فهم مدلول هاتين الكلمتين: الإيمان، والكفر، ثم إرساء القاعدة المعلومة وهي: التفريق بين الكفر والكافر، وذلك أن الكفر قد يصدر قولاً أو فعلاً ممن لا يجوز أن نحكم عليه بالكفر "وسيرى القارئ بحول الله بياناً تاماً لهذه القاعدة بأدلتها. الإيمان ما هو؟ وما حقيقته؟ لنفهم مدلول كلمة ما -وردت في القرآن أو السنة- لا بد من معرفة لمدلولها العربي أولاً، ثم نتتبع استعمال الشارع لها في أوضاعها المختلفة. ولا يجوز بتاتاً أن نجعل عرف الناس في زمان ما أو مكان ما -غير زمن التشريع- حكماً على اللفظ. وهذه الكلمة (الإيمان) من الكلمات التي لا يجوز تفسيرها إلا بالمعاني التي أرادها الله، وأرادها الرسول صلى الله عليه وسلم وبهذا يتحدد معناه الشرعي. إذا تتبعنا وجوه استعمال هذه اللفظة لكتاب الله وجدنا أنها تدور على قطبين أساسيين:
(أ) الأول التصديق. (ب) الثاني العمل أو الالتزام بالعمل. فمن أدلة المعنى الأول قول الله لإبراهيم عندما طلب منه أن يريه كيف يحيي الموتى: وبهذا يظهر الشق الأول لمعنى الإيمان وهو التصديق بخبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصول ذلك في الحديث الصحيح وذلك عندما سأله جبريل عن الإيمان قال: [أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى] (حديث جبريل المشهور رواه مسلم). وأما الشق الثاني لمعنى الإيمان فهو العمل نفسه أو الالتزام بالعمل وأعني بالعلم (عمل الإيمان) أي مجموعة الأعمال التي يسمى صاحبها مؤمناً ومجموعة المخالفات التي يسمى تاركها مؤمناً. فما ورد من القرآن قوله تعالى رداً على من قال من المسلمين: ما شأن إخواننا الذين ماتوا ولم يصلوا إلى الكعبة؟ وذلك بعد أن حولت القبلة إلى الكعبة بعد بيت المقدس قال تعالى: قال العلماء (إيمانكم) أي صلاتكم، أي وما كان الله ليضيع صلاتكم السابقة إلى بيت المقدس لأنه هو الذي أمركم بها وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [الإيمان بضع وستون شعبة: أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق] (أبو داود والنسائي وابن ماجه، ورواه البخاري بضع وستون)، فقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم هنا جميع أعمال الإسلام من الشهادتين إلى أدنى عمل وهو رفع الأذى عن طريق المسلمين إيماناً. وقد جاءت الآيات الكثيرة جامعة بين المعنيين وذلك في وصف المؤمنين ومن ذلك قوله تعالى: وبهذه الآية يتحدد معنى الإيمان بشقيه فالإيمان هو التصديق بالله ورسوله وعدم الشك في ذلك والجهاد بالمال والنفس في سبيل الله. ولا شك أن الجهاد يشمل ما دونه من أعمال الإسلام لأن الجهاد هو الذروة من أعمال الإسلام، فلا ينبعث الجهاد في سبيل الله تارك للعمل الواجب كالصلاة والزكاة والحج مثلاً وقول الله قال تعالى: فوجل القلب أي خوفه وخشيته وزيادة الإيمان أي التصديق في القلب وتأكيده، والتوكل على الله. كل هذا استجابة حسية يحسها القلب المؤمن، ومعنى هذا أن الإيمان ليس مجرد تصديق خامل في القلب وإنما هو تصديق مستجيب حي. ثم يأتي بعد ذلك إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وهما عملان من أعمال الإيمان ويعقب الله على هذا بقوله: وبهذا نفهم أن الإيمان في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم له معنيان: الأول: هو تصديق خبر الله تعالى وإخبار رسوله صلى الله عليه وسلم. الثاني: هو الالتزام بالأوامر التي أمر الله بها هؤلاء المصدقين. وهنا سنصل إلى هذا السؤال: هل يجوز أن نحكم بالإيمان لمن صدق بقلبه فقط، ولم يلتزم بالعمل؟ وبمعنى آخر هل يكون مؤمناً ناجياً من شهد أن لا إله إلا الله بقلبه، ولكنه لم يعمل ما أمره الله به؟ ولم ينته عما نهاه الله تعالى عنه؟ والجواب على ذلك يتضح -إن شاء الله- بما يلي: إن الفصل بين عقيدة القلب (تصديقه) وبين الإذعان، والتسليم لأمر الله وفعل ما يطلبه سبحانه من المؤمن، فصل لتقريب هذه الدراسة من الفهم، وليس له في الواقع حدوث ولا ظل فإنه لا يتصور عقلاً وجود إنسان ما يسمع كلام الله يقول له: أي عبدي إن هناك يوم قيامة، فيه سأحاسبك على أعمالك فإن أحسنت أدخلتك الجنة، وإن أسأت أدخلتك النار، ثم يقول رداً على ذلك: أي رب إن أصدق كلامك، وأؤمن بما تقول، ولكني أعتذر عن العمل بأوامرك لأنني كسول.. وقد أوضح هذه المسألة الإمام ابن القيم -رحمه الله- حيث يقول: لا يعقل إيمان رجل يعلم وجوب الصلاة، ويسمع نداء الله تبارك وتعالى كل يوم وليلة من حياته يناديه: حي على الصلاة، وهو لا يستجيب لهذا النداء مرة واحدة في حياته.. ولقد كنت أضرب مثلاً لإخواني على هذه الحقيقة فأقول لهم: - يا إخوة! أرأيتم لو أن قائلاً قال لنا ونحن جلوس الآن إن هذا المكان تحيط به النار وإن لم تفروا الآن لحقت بكم وأهلكتكم أيبقى منا أحد -يصدق هذا الخبر- إلا بادر بالخروج والهرب؟؟ أو يعقل أن ترى بيننا إنساناً يقول لذلك النذير يا أخ لقد سمعنا مقالتك وفهمنا تحذيرك، ولكنني أعتذر عن القيام من مكاني لأنني كسلان!.. إذا وجد شخص بهذا الطراز فإنما هو مجنون أو مكذب بالخبر، ويستحيل أن يوجد عاقل يصدق هذا الخبر، ويرد هذا الرد. إن إيمان القلب وامتثال الجوارح، أعني الإذعان والمسارعة إلى فعل المأمور به قضية واحدة لا انفصال لها، فإن وجد الإيمان في القلب فإن صاحب هذا الإيمان سيبادر فوراً إلى العمل والإمتثال، وهذا دليل عقلي واضح لا يماري بعده مقلد أعماه التقليد، أو جاحد أو جاهل. هذا وهناك أحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم يفهم منها للنظر البادئ أن إيمان القلب وتصديقه يؤهل لدخول الجنة بعد عذاب في النار لا يعلم أمده إلا الله، وأنه لا يخلد في النار خلوداً أبدياً كخلود الكفار المكذبين، وسأعرض لهذه الأحاديث في ختام هذه الرسالة إن شاء الله تعالى. والمهم هنا هو إثبات أن تارك العمل مستحق للدخول في النار، وهو من جملة المعاقبين قطعاً، وأما مسألة الخلود فمسألة أخرى حقيقتها ثانوية، وقد كان لسوء فهمها من جمهور المسلمين الأثر الأكبر في خروج طوائف كثيرة منهم من حقيقة الإيمان إلى الكفر وهم لا يشعرون. فناقش أخي المسلم نفسك: هل أنت حقاً مؤمن بالله؟؟ فإن كنت لا تؤدي ما فرض الله عليك فراجع إيمانك.. وسل نفسك دائماً هل أنت مؤمن بالجنة حقاً؟ فإن كنت مؤمناً فلماذا تقعد عن طلبها؟ وهل أنت مؤمن بالنار حقاً؟ فإن كنت مؤمناً فلماذا تذهب بأقدامك إليها؟ وهل أنت بعد ذلك مؤمن بالله الواحد الأحد.. فلم لا تسعى إلى مرضاته؟ لم لا تحبه؟ لم لا تطيعه؟. واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أرادها من الناس كلمة لا امتثال بها لسارع الناس إلى ذلك ولكنه أراد ما بعد الكلمة من أمثال ولذلك أخذ العهود من الأنصار على النصرة، ومن المهاجرين على بذل المال وعلى الهجرة ومنها على الموت في سبيل الله. وأنه ما وعد كل أولئك إلا الجنة بعد كل هذا العمل والجهاد.. فهل يظن بعض ضعاف النفوس أن تكون بعدها عناء في ركعات وسجدات، ولا يخرج من ماله قرش في سبيل الله، ولا يقول لله كلمة حق، ويزعم بعد ذلك أن الجنة من نصيبه. هيهات.. هيهات.. الإيمان عقيدة والتزام، تصديق وعمل. وليس هناك إيمان بغير هذا. موضوع الإيمان وشرطه: عرفنا أن الإيمان تصديق وعمل، وأنهما لا ينفكان، فإذا وجد التصديق وجد العمل، وإذا انتفى التصديق انتفى العمل، فما مضمون هذا التصديق؟ وما موضوعه؟ ما الأخبار التي يجب على المؤمن التصديق بها؟ هذا التصديق يشمل جميع ما أخبره به الله سبحانه وتعالى من أمور الغيب وكذلك ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن كذب الله في جزء واحد مما أخبر به فقد نقض إيمانه وسيأتي بيان هذا -إن شاء الله تعالى- في مناقضات الإيمان. ولكن ليدخل المؤمن باب الإيمان لا بد وأن يعتقد بأصول لازمة تتضمنها هذه الكلمة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فما هذه الأصول اللازمة؟ (أ) أن يعتقد أن خالق هذا الكون ومسير أموره إله واحد أحد حي قدير يتصف بصفات الكمال والجلال ويتنزه عن كل صفات النقص والعيب، وأنه لم يشاركه أحد وليس له صاحبة ولا ولد وإن كان ما سواه فهو عبد مقهور مربوب له سواء كان ملكاً أو رسولاً، أو جنياً أو أي شيء آخر. (ب) أن يعتقد أنه لم يخلق هذا الكون سدى ولا عبثاً -لأنه تنزه عن اللعب والعبث- وإنما خلقه لغاية وهذه الغاية هي قيام المؤمنين لربهم بالعبادة والطاعة، وأن الكافرين الذين لم يذعنوا لربهم ولم يؤمنوا به ملعونون مطرودون من رحمته. (ج) أن يعتقد أن من حق الله تعالى أن ينظم ويشرع لخلقه لأنه هو الخالق الموجد، قال تعالى: (د) أن يعبد الله وحده بما شرعه سبحانه من عبادات، ويدعوه ويرجوه وحده، وأن لا يتخذ في دعائه -بينه وبين الله- واسطة لأنه قريب يجيب دعوة الداع إذا دعاه. ويقبل التائبين ويحب المستغفرين. ومن اتخذ إلى الله واسطة ميتة يدعوها من دون الله فقد أشرك مهما كانت منزلة هذه الواسطة. (هـ) أن يصدق بالبعث والجنة والنار وبكل ما قص الله من أخبار سالفة أو آتية دون الرجوع في ذلك إلى عقله وقياسه فما وافق عقله قبله وما خالفه رده لأن هذا نقض للإيمان. وذلك أن أعمال العقل في شأن الإيمان يكون أولاً بالتعرف على صدق الرسول فيما يخبر به عن ربه فنحن نفتش عن الرسالة ونستقصي خبرها حتى نعلم يقيناً أن الرسول صادق فإن آمنا بصدقه أخذنا أخباره الغيبية بعد ذلك دون ردها إلى عقولنا ومفهومنا لأن العقل لا يفهم إلا الواقع المشاهد، ويستبعد غير المألوف المعتاد وإلا فما هي المعقولية والقياس بالنسبة للصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف، ومع ذلك يمر المؤمنون عليه كالبرق وكالطرف وأجاويد الخيل والركاب.. وما المعقولية في أن يدفن رجلان في قبر واحد فيكون أحدهما في روضة من رياض الجنة والآخر في حفرة من حفر النار؟! هذه أصول عقيدة الإسلام الذي لا يعتد بإيمانه أحد يخالف أصلاً منها، وهذا هو المضمون لشهادة أن لا إله إلا الله، والذي يجب على كل مسلم التصديق به. وبهذا نكون قد عرفنا مضمون الشطر الأول من معاني الإيمان وهو التصديق. فما مضمون العمل؟ هل يجب الالتزام بكل أوامر الله تبارك وتعالى وأوامر رسوله؟ أم بالبعض دون البعض؟ وما نوع البعض الذي فيه الالتزام؟ وللجواب على هذه الأسئلة لا بد من بيان أمور: أولاً: في كل عبادة عملية جانبان من الامتثال: الجانب الأول هو الجانب الاعتقادي، والثاني هو التنفيذ أو الامتثال، ومثال ذلك القتال: يجب اعتقاد فرضيته على كل مسلم، ثم يجب تنفيذه إذا تعين على كل فرد معين أو جماعة معينة وذلك بشروط معروفة في كتب الحديث والفقه. ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من مات ولم يغز، أو يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من نفاق] (مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد). فتحديث النفس هو الجانب الاعتقادي ومعناه التهيئة النفسية اللازمة. فيجب على كل مسلم اعتقاد وجوب القتال على مجموع الأمة بقوله تعالى: وليس هذا في شأن القتال وحده بل في كل أمر واجب فإنه يجب على كل مسلم اعتقاد وجوبه أولاً ثم أداؤه عملياً إذا لم يحل بينه وببينه عذر أو ضرورة شرعية. وهذا الجانب الاعتقادي نفيه (كفر) وهو ما يسميه العلماء (الجحود) يقولون: من جحد وجوب الحج كفر. أي من لم يؤمن أن الله فرض عليه الحج عند الاستطاعة فهو كافر. ثانياً: والجانب الثاني هو التنفيذ وهو أداء العمل ذاته، ويفرق العلماء بين ترك الجانب العملي (التنفيذ) كسلاً وبخلاً أو بعذر ما غير مقبول شرعاً كمن يترك الصوم تكاسلاً عن تحمل مشقته ويترك الحج بخلاً ويترك القتال في سبيل الله المفروض عليه خوفاً وجبناً، يفرقون بين هذا وبين ترك العمل الواجب جحوداً ونكراناً، فيعدون الأول عاصياً والثاني كافراً. ولكن هناك عبادة واحدة فقط اختلف علماء المسلمين في تركها كسلاً، فقال قوم من أهل الحديث وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تاركها كسلاً كافر أيضاً للأحاديث المشهورة المعلومة في كفر تارك الصلاة كقوله [العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر] (رواه الإمام أحمد وأهل السنن. وقال الترمذي حديث صحيح إسناده، على شرط مسلم) والحديث الآخر [بين المرء وبين الكفر ترك الصلاة] (رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي) (وللآثار عن السلف) كنا لا نعد عملاً من الأعمال تاركها متكاسلاً أو محتجاً بأعذار غير شرعية - وليس في ترك الصلاة كلية عذر شرعي يقولون عنه مسلم عاص، ولا فرق بين ترك الصلاة الواجبة وترك غيرها من الأعمال الواجبة، ويؤولون الأحاديث السالفة بأن المقصود تاركها جحوداً أو أنه كفر أقل من الكفر المخرج من ملة الإسلام فهو كفر معصية فقط. والحق الذي لا غبار عليه في هذه المسألة -إن شاء الله- أن تاركها كلية لا يتصور أن يكون من جماعة المؤمنين وسيفهم هذا من يفهم معنى الإيمان السابق بشقيه وأنه عقيدة وعمل، وقد ذكرت ما أورده العلامة ابن القيم رحمه الله في هذا الصدد، إذ كيف نعتبر مؤمناً بالله وبالجنة وبالنار من يسمع هذه القوارع تقرعه بالكفر والعذاب وهو لا يستجيب لذلك. ويعتذر عن الامتثال بمجرد أنه كسلان يستحيل عقلاً أن يكون أمثال هؤلاء من المؤمنين. هذا وبقية العلماء والأئمة لا يمانعون في كفر تارك الصلاة تبعاً للنص ولكنهم يأبون أن يسوى بالكفر مطلقاً الجاحد للتوحيد ويرون أيضاً أن كفره يستحق عليه دخول النار ولكنه لا يخلد فيهاً أبداً خلود الكافر. وعلى كل حال فإن عامة الناس وجهالهم الذين تركوا الصلاة متكلين على مجرد الاعتقاد بوجوبها إن فحصوا إيمانهم واختبروه ورجعوا إلى أنفسهم علموا أنهم لا يملكون من الإيمان شيئاً، وأنهم مغرورون بأماني كاذبة تشبه أماني اليهود والنصارى في دخول الجنة بمجرد الانتساب إلى الدين، ويجعل عذاب الله -إن لحقهم، وهو فرض ضعيف عندهم- إنما هو لأيام معدودة فوالله ما أشبه هذا بقول الله تعالى عن اليهود، وسيبقى الخلاف محصوراً -بشأن تارك الصلاة- في الخلود في النار أو عدمه، والمسلم الذي يعول على مثل ذلك ساقط ضعيف إذ دخول النار وحده كاف ولو لدقيقة من الزمن بل عذاب الموقف وحده وهو خمسين ألف سنة كأيام الدنيا شيء عظيم وحده يجب أن يفر المؤمن منه. ولعل من أعظم أدلة كفر تارك الصلاة وبقائه في النار زماناً لا يعلمه إلا الله، هو أنه لم يرد له في الموقف عقوبة مطهرة كما جاء لتارك الزكاة مثلاً. وخلاصة هذا الأمر أن العمل -بوجه عام- من لوازم الإيمان لأنه نصف معناه، ويجب اعتقاد وجوب العمل الواجب واستحباب المستحب، وتحريم الحرام وهكذا... ثم فعل الواجب وترك الحرام، وقد اتفق العلماء على أنه لا يكفر من ترك عملاً من أعمال الإسلام إلا الصلاة، فقد قال يكفر بتركها كفراً مخرجاً من الملة الإمام أحمد ومن تابعه وطائفة أخرى من العلماء والسلف. وبعد هذا البيان بشأن العمل الواجب سيكون الأمر واضحاً بشأن العمل المحرم، فاعتقاد تحريمه واجب ويكفر من اعتقد بحلية الخمر والزنا والسرقة والقتل وهكذا سائر المحرمات المعلومة والمنصوص عليها في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن أحل شيئاً من ذلك أو استحله لنفسه فهو كافر بإجماع المسلمين وليس لهذا مخالف، ولا شك أن المطالبة بتحليل ما حرم الله كفر مخرج من الملة لأنه في حقيقته محاربة لدين الله وحرب له، وتسفيه لقانون الله ونظامه وشريعته. وهذا هو سر كفر مستحل الحرام إذ هو في حقيقته معترض على تشريع الله، والاعتراض لا يصدر إلا عن مستصغر لأمر الله وهذا فيه نسبة النقص إلى الله وهو الكفر. ومن فهم هذا الأصل عرف لماذا طرد الله إبليس من رحمته ولعنه بمجرد أن قال لله تبارك وتعالى: هذا ولم يختلف علماء المسلمين في عدم تخليد فاعل معصية في النار إلا في قتل النفس المؤمنة ولم يطلق أحد من العلماء الكفر على فاعل ذلك وقولهم بالخلود في النار إنما كان لقوله تعالى: ولقد قال بعض علماء السلف بذلك والبعض يقول: أنه خلود لا تأبيد معه أي مكث طويل يخرج بعده من النار جمعاً للآية والآيات الأخرى والأحاديث التي تبين أنه لا يخلد في النار إلا الكفار فقط، وأن من قال لا إله إلا الله فإنه تنفعه يوماً من عمره. فإذا عرفنا أن الجانب الاعتقادي لازم لكل مسلم في مسائل العمل، وأعني بالجانب الاعتقادي ما أوضحته آنفاً وذلك كاعتقاد وجوب الصلاة، والزكاة والحج والقتال، وتحريم القتل إلا بالحق، والزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه ليس مسلماً من خالف هذا الاعتقاد. بقي علينا أن نفهم كنه هذا الاعتقاد وأثره في النفس. أما هذا الاعتقاد فمعناه بالنسبة للصلاة مثلاً: أن يصدق بأن الله فرض عليه خمس صلوات في اليوم والليلة وأن لا يجحد ذلك لا بقلبه ولا بلسانه، فإن لم يصدق أو جحد فقد كفر وهذا أمر لا خلاف فيه بين علماء المسلمين والحمد لله رب العالمين. فلنأت إلى أثر هذا في النفس إذا تصورنا مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويعتقد بوجوب خمس صلوات في اليوم والليلة، ويسمع الوعيد الشديد والتهديد العظيم على من فرط في ذلك.. ألا يورث ذلك فيه سمعاً وطاعة، اللهم نعم.. من قال بغير ذلك فقد أخطأ، هب أنه تكاسل وغلبته أهواؤه يوماً ألا يورث ذلك في قلبه حسرة وألماً، ألا يتحرك قلبه خوفاً أن يكون مشمولاً مع جملة المعذبين الذين توعدهم الله بترك الصلاة؟ اللهم نعم.. فإن لم يتحرك قلبه حسرة ولا ندم ولا بخوف من عقوبة، فكيف يسمى هذا مؤمناً بالله؟؟.. وهنا قد شهدنا له هذه الشهادة الجائرة وهو يصر على ترك الصلاة طيلة حياته حتى يلقى ربه الذي يؤمن به.. فليراجع إيمانه رجل لا يؤدي الصلاة. وليتق الله مؤمن يشهد بالإيمان لرجل يحكم رسول الله بكفره. ويشهد الله بالعذاب له، ويشهد كل عقل سليم أنه لا يجتمع الإيمان بالله ومعصيته المطلقة في قلب رجل أبداً. وهذا الجانب الاعتقادي سيكون واضحاً أيضاً إن شاء الله في شأن المعصية، فأول أمر يجب على المسلم تجاه المعصية أن يعتقد بحرمتها عليه. فاعتقاد حرمة الزنا واجب ومن لم يصدق ربه في ذلك وكابره واستحل ما حرم فقد كفر. وهذا التصديق يوجب الحذر والخوف من مقاربة الإثم وفعل المعصية، فإن غلبت الشهوة والطبيعة والهوى فسقط المؤمن وعصى، فلا نقول كفر وإنما عصى ولكن استحق العقاب وعرض نفسه لسخط الله فإن كان مؤمناً بذلك تألم وخاف. فإن لم يحصل خوف ولا تألم، ولا تذكر بعقوبة الله فقد كفر، ويستحيل عقلاً أن تتصور مؤمناً يشرب الخمر أو يزني أو يفعل معصية ما تحت ظرف من الظروف ثم يمر الظرف، ويعود إلى الصواب والرشد، ولا يرد على قلبه سحابة من خوف الله ولا ألم مما جنت يداه، ولا خوف أن يسأل عن ذلك غداً أمام مالك يوم الدين. بل يمر في معصيته غير عابيء بشيء، ولا مهتم لأمر.. حاشا وكلا أن يكون هذا من جملة المؤمنين. ولقد وصف الله الإنسان الكافر بهذا الوصف فقال: فالإنسان الذي {يفجر أمامه} أي يلوي في فجوره غير عابيء بشيء هو المكذب بيوم القيامة هذا الذي قدمت هو مضمون الإيمان ولازمه، فالعمل من لوازم الإيمان وهذا قول عامة السلف لهذه الأمة وأما الذين قالوا (لا يستلزم الإيمان العمل ولا يضر معه معصية)، فهم المرجئة الخلفيون الذين جعلوا الإيمان حقيقة مجردة لا واقع لها في الحياة ولا ظل له فيها، ولا أثر له في النفس، وقولهم ظاهر السقوط والبطلان فالفصل بين الإيمان بالله والانصياع لأمره والرضا بحكمه هو في حقيقته فصل بين متلازمين، وما أشبه قولهم بمن يقول: (الدين علاقة بين الإنسان وربه) يريدون بذلك فصل الدين عن واقع الحياة وإصلاح النفوس وهذا القول نفسه هو قول القائل (الدين لله والوطن للجميع) يريدون بذلك ترك أمر تنظيم المجتمع حسب شريعة الله وعقيدة الإسلام. أقول هذه الأقوال جميعها تجتمع عند غاية واحدة، وإن اختلف قائلوها شكلاً وموضوعاً وهي إفلات المجتمع وحياة الناس من عقيدة الإسلام وشريعته وهذا أمر خطير جداً. فلينظر الداعون إلى الله أي منهج يسلكون؟ وأي عقيدة يحملون؟ ويبقى في هذا الفصل من هذه الرسالة الإجابة على هذا السؤال، وما مقدار العمل الواجب واللازم لإظهار حقيقة الإيمان؟ ولن نستطيع أن نذكر مقداراً محدداً للعمل اللازم وكمية منصوصاً عليها وذلك أن العمل الواجب يختلف باختلاف الظروف والأحوال والأشخاص، والضرورات الشرعية. فمقدار العمل الواجب المسموح به للمؤمن في مجتمع ما يختلف قدراً وكيفية عنه في مجتمع آخر، ومقدار الضرورة التي تبيح المحظور تختلف مع الشخص في حالة عن حالة، فهل يجوز أن نلزم مسلماً يعيش في مجتمع كافر يحارب الإسلام أن يظهر إسلامه ويعلنه ويؤدي الشعائر في أوقاتها وقد يتعرض في سبيل ذلك إلى الطرد والإبعاد والحرمان من دراسته. وهل يكون هذا الحكم، أعين السماح لهذا الشخص بإخفاء عقيدته وإيمانه هو الحكم لشخص آخر يعيش بين كفار لا يعادون الإسلام ولا يتعرضون لم يخالفهم في دينهم وعقيدتهم. إن مقدار العمل اللازم للإيمان سيحدده الظرف والمجتمع وحكم المؤمنين المخلصين الذين يقبل الله شهادتهم كما قال تعالى: وهذا الحديث بالطبع لا يقتضي الحكم بالكفر والإيمان كحكم نهائي لأن التقييم الأخير إنما هو لله سبحانه وتعالى العليم بالسرائر، ولكنه شاهد على أن العمل الظاهر غالباً ما يدل على الاعتقاد الباطن، ولذلك صوب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بشهادة المؤمنين. ولن يستطيع مجموع المؤمنين في مجتمع ما تكفير رجل لا يؤدي شيئاً من الشعائر إلا إذا أعرب لسانه أنه ترك هذا استنكافاً لأمر الله عز وجل وعلواً عليه، وحتى الصلاة التي لا يعتد بإيمان رجل لا يؤديها لوقتها فإن تكفير تاركها مرتبط دائماً بإقامة الحجة عليه وذلك لا يكون إلا بعد علمه بالآيات والأحاديث في شأن تارك الصلاة. وخلاصة هذا الأمر أننا لا نملك كمية محددة من الأعمال يلزم بها من يقول لا إله إلا الله ويكفر تاركها وذلك كما قلت لاختلاف الظروف والمجتمعات اختلافاً بيناً في زماننا ولكن هناك حكم المؤمنين المخلصين في كل مجتمع على أنفسهم وعلى غيرهم، وهذا الحكم مقبول عند الله بوجه عام، ولا يجوز أن يحكم على شخص تارك للعمل بمقتضى لا إله إلا الله إلا بأن يعرب لسانه أنه ما ترك العمل إلا استنكافاً لأمر الله وعلواً عليه. وعل كل هناك قضيتان لا بد من الفصل بينهما. (أ) القضية الأولى: قضية حقيقة الإيمان والكفر. (ب) والقضية الثانية: تطبيق هذه القضية أعني الحكم على شخص ما أو مجموعة ما بالكفر، والحكم لشخص ما أو مجموعة ما بالإيمان، ونحن ما زلنا بصدد القضية الأولى وهي بيان حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر، وأما القضية الثانية فلها شروط وآداب وحيثيات سنتعرض لها في فصل آخر من فصول الرسالة. والمهم هنا إثبات أن العمل من شروط الإيمان، وأن تحديد الكمية غير وارد لما بينت آنفاً. ولا يقدح هذا في اشتراط العمل.
عرفنا في الجزء السالف مضمون الإيمان وأنه تصديق الله عز وجل فيما يخبر فيه عن نفسه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وقضائه وقدره واليوم الآخر، كل ذلك على النحو الذي بينه سبحانه أو بينه رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وعرفنا شرط الإيمان وهو العمل بشقيه: العمل الواجب الذي يجب أن يسارع المؤمن إليه، والعمل المحرم الذي يجب على المؤمن الفرار منه والبعد عنه والذي يجب أن نعرفه أيضاً، أنه على قدر ثبات مضمون الإيمان وظهور حقيقته في النفس يكون تحقيق شرط الإيمان وهو العمل. فالملتزمون العاملون بأوامر الله هم الصادقون في دعوى الإيمان، والمفرطون المخذولون هم الكاذبون الغاشون لأنفسهم. فإذ قد ظهرت لنا حقيقة الإيمان على هذا النحو وجب علينا أن نعرف أن هذه الحقيقة لها نواقض تنقض عراها. وتعري صاحبها منها. فالرجل قد يتصف بحقيقة الإيمان التي أسلفت القول فيها، ولكنه يرد على قلبه اعتقاداً ما، أو يعمل عملاً ما فإذا به خارج عن حقيقة الإيمان داخل في إطار الكفر، فما هذه الأقوال والأعمال التي تخرج صاحبها عن حقيقة الإيمان إلى الكفر والعياذ بالله؟؟.. والجواب: أن حصر هذه الاعتقادات التي يكفر بها صاحبها يخرج بهذه الرسالة عن حجمها المقدر لها، ولذلك سأورد الأصول من ذلك والقصد بحول الله هو بيان الحق في هذه المسألة الخطيرة التي نحن بصددها، وقبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من فهم هذه المقدمة: إن الإيمان حقيقة كلية لا تقبل التجزئة.. إنه حقيقة كلية يندرج تحتها فروع كثيرة، ومع ذلك فإخراج فرعية واحدة من قضايا الإيمان وجحدها هو كفر ببقية القضايا والمسائل والفروع الأخرى. والأدلة على هذه المقدمة مشهورة واضحة في كتاب الله تبارك وتعالى. قال تعالى: وقال عز وجل: فهذه نصوص واضحة صريحة على أن الإيمان والالتزام يجب أن يكون كلياً غير منقوص، وهاتان الآيتان وإن كانتا في شأن اليهود إلا أن العبرة بعموم لفظها، ولا شك أن ما يعيبه الله على قوم يعيبه علينا إن فعلنا مثلهم . فالآية الأولى آية البقرة بشأن عمل، والثانية آية النساء، بشأن اعتقاد. ففي الأولى: عاب الله على اليهود في المدينة انقسامهم ومحالفة بعضهم للأوس وبعضهم للخزرج، ولقد كانت تشب الحروب بين الفريقين فيقتل اليهودي الموالي للخزرج اليهودي الموالي للأوس ويساعد عليه عدوه ويخرجه من داره والعكس أيضاً، فإذا وضعت الحرب أوزارها اجتمع رؤساء اليهود من كلا الفريقين وجمعوا الأموال وفادوا الأسرى، وداووا الجرحى.. من كليهما فأنزل الله في شأن ذلك: وأما الآية الثانية: فهي رد على اليهود بشأن تصديقهم بنبوة موسى وكفرهم بنبوة محمد وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً وهذا تفريق بين الله ورسوله، والشاهد من سرد هذه الأدلة بيان أن قضية الإيمان قضية كلية لا تقبل التجزئة، وسيزاد هذا الأمر وضوحاً وبياناً عند التمثيل لكل ناقض من نواقض الإيمان على حده. أما السبب في أن الإيمان ينتقض بانتقاض فرد واحد وقضية واحدة من قضاياه فهو أن الطعن في مسألة من العقيدة طعن في العقيدة كلها، فالذي يعتقد بأن الله هو الحكيم العليم قد آمن، فإذا ظن هذا أن هناك عملاً من أعمال الله قد خلا من الحكمة أو جاء على مقتضى الجهل فقد كفر بإيمانه السابق، والذي أعتقد بأن الله هو الرحمن الرحيم والذي يكفر برسول واحد هو الله سبحانه وتعالى، فتعصب إنسان ما لرسول تعصباً يحمله على الكفر بغيره هو طعن في مرسل الرسول نفسه وهو الله سبحانه وتعالى والكفر بالملائكة مثلاً تكذيب لله ومن كذب الله فقد كفر. ومن هذا القبيل أيضاً استحلال المعصية إذ هو لله تبارك وتعالى. أنا لا أرضى حكمه ولا أرتضي حكمتك في تحريم هذا الأمر والواجب أن يكون حلالاً.. وهذا رد لكل إيمان سبق إن كان قد سبق إيمان، وكذلك الأمر بالنسبة للمستكبر عن الطاعة فبيان حاله أنه يقول لا أذعن ولا أفعل لأن أمرك هذا خال من الحكمة وعار عن العلم. وهذه معصية إبليس عليه لعنة الله، فقد امتنع عن أمر الله تكبراً واتهاماً لهذا الأمر بالخلو عن الحكمة والعلم. ولهذا لم يصبح الأمر مجرد معصية وإنما أصبح قدحاً في علم الله وحكمته وذماً لأمره، وهذا ناقض لكل إيمان سابق وعمل صالح سالف. وبهذا التمهيد أرجو أن يكون الأمر جلياً واضحاً في تطبيق هذه القاعدة على بعض فروعها التي سأتعرض لذكرها بحول الله وإعانته. وليس القصد في عرض هذه الفروع الناقضة للإيمان هو الاستقصاء، ولكنه التمثيل فقط لتتضح هذه القاعدة. وسأتعرض بالذات لما يكثر عليه الخلاف والجدل في زماننا وما يختلط فيه الحق والباطل والله أسأل الهداية إلى سواء الصراط.
كيف ينتقض الإيمان؟؟ حقيقة الإيمان تدور حول الإيمان بذات الله وصفاته الكريمة وكل مسائل الإيمان وقضاياه تلتقي بهذه الحقيقة الأولى. الإيمان بالله العظيم الرب الخالق الرحمن الرحيم الملك المهيمن العزيز الجبار الذي خلق الخلق لحكمة عظيمة والذي لا يظلم ولا يعتري ذاته أي نقص من نوم أو غفلة أو ضعف أو مرض والقائم على كل نفس بما كسبت والرقيب على كل شيء الذي لا تخفى عليه خافية، والذي يخلق ما يشاء ويختار ويفعل ما يشاء ويحكم ما يشاء ويقضي ما يشاء ويأمر بما شاء وينهى عما شاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، وما الإيمان بالملائكة إلا فرع عن الإيمان بالله فالملائكة هم جنده، وكذلك الرسل الإيمان بهم فرع عن الإيمان به، لأنهم رسله والقائمون بدعوته، وكذلك الشأن في كتبه فهي قانونه وتشريعه وكلامه، وكذلك اليوم الآخر فهو اليوم الذي ضربه سبحانه وتعالى موعداً لخلقه من الإنس والجن لفصل القضاء بينهم. فالإيمان باليوم الآخر فرع عن الإيمان بالله وكذلك التكذيب بهذا اليوم كفراً بالله، وما القضاء والقدر إلا فعله وتصريفه سبحانه وتعالى. ولذلك كان الاعتراض على القضاء والقدر بصورة مباشرة نقصاً للإيمان بالله، وسيأتي لأمر هذا الاعتراض تفصيل في مكان آخر إن شاء الله تعالى. وبهذا تتضح الصورة الكلية للإيمان وأنه ليس أجزاء متفرقة مبعثرة نستطيع أن نأخذ منها ما شئنا ونترك ما شئنا ونبقى بعد ذلك مؤمنين. كلا، إن قضية الإيمان لا تتجزأ ومسائله تنبع جميعها من الإيمان بالله الواحد سبحانه وتعالى. فلذلك كان الاعتراض أو الرد أو التكذيب لمسألة من مسائله وقضية من قضاياه كفراً بالأصل الأصيل وهو (لا إله إلا الله) ونقضاً لها. فالمكذب بعذاب القبر مثلاً، أو الصراط الموصوف في الأحاديث الصحيحة أنه أدق من الشعرة وأحد من السيف وأنه جسر مضروب على جهنم يجوز عليه المؤمنون بأعمالهم، وبأن بعض الكفار يحشرون على وجوههم يوم القيامة، يسيرون عليها، هو في حقيقة أمره مكذب بقدرة الله عز وجل ولا يفيده إيمانه السابق بقدرته المشاهدة في الدنيا. ولذلك لما سأل أحد الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحشرون على وجوههم يا رسول الله؟.. قال صلى الله عليه وسلم: [إن الذي أمشاهم على أرجلهم في الدنيا قادر على أن يحشرهم على وجوههم في الآخرة] (البخاري ومسلم والترمذي وأحمد)، فرد صلوات الله وسلامه عليه الأمر إلى القدرة الإلهية التي يؤمن بها المؤمن في الدنيا. وقس على ذلك كل تكذيب أو رد لأي مسألة من مسائل الإيمان. ويجب أن يكون هذا الأمر واضحاً أيضاً بالنسبة لمسائل التشريع، فالاعتراض على شعيرة ما من شعائر الإسلام هو في حقيقته اعتراض على المشرع سبحانه وتعالى وهذا هو الكفر، فمن قال مثلاً عن السعي بين الصفا والمروة امرأة سعت بين جبلين من جبال مكة وما شأننا نحن بهذا؟.. هو في حقيقته معترض على المشرع سبحانه وتعالى. وقد سمعت أن بعض الحجاج من المسلمين في زماننا يقول بذلك بل وبأكثر منه كالاعتراض على الطواف وتقبيل الحجر الأسود، ورمي الجمار، ولا شك أن هذا الاعتراض على هذه المناسك هو كفر بحكمة المشرع وعلمه سبحانه وتعالى، وهذا هو الكفر المخرج من الملة والعياذ بالله. فالاستهزاء بإعفاء اللحية أو الصلاة أو الحجاب الشرعي للمرأة أو المسجد أو الكعبة أو الرسول هو كفر بالله تبارك وتعالى، فكل ما ينسب إلى الله من أمر ونهي وذات والاستهزاء به والاعتراض عليه كفر ونقض للإيمان. وأعني بالذات ما ينسب إلى الله من شيء كالكعبة والمسجد والمصحف، فالاستهزاء بالمسلم لإسلامه كفر، ولا يتأتى هذا من مسلم أبداً. قال الله تعالى عن الكفار: والشاهد أن كل ما ينسب إلى الله قد كرم والاستهزاء به استهزاء بمن كرمه وأعزه، ومن شرع له الطريق الذي يسير فيه. ومن هذا الباب أيضاً معاداة المؤمن لأجل تدينه وفتنته ليرجع عن دينه هذا كفر وصد عن سبيل الله تبارك وتعالى. لأن الأصل أن يحب المؤمن لإيمانه ويقدم لإحسانه، فإذا عادى شخص ما المسلم لأجل تمسكه بدينه، ولاعتصامه بكتاب ربه وسنة نبيه فقد كفر وصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، أي جمع بين جريمتين؛ الكفر إحداهما والعياذ بالله، والسبب في هذا عداوة المسلم لأجل تدينه هي في حقيقتها عداوة لدين الله، ومن عادى دين الله فقد عاداه وعدو الله هو الكافر وأما المؤمن فإنه ولي الله لأن الله يقول: وأرجو بهذا البيان أن أكون قد أوضحت الصورة الكلية لحقيقة الإيمان وكيف أنها تنتقض بانتقاض إحدى جزئياتها. والله أسأل أن يعصمني وإخواني المؤمنين من أن ننقض إيماننا، وأن يرزقنا تكميل هذا الإيمان حتى نلقاه سبحانه وتعالى وهو موفور كامل. وهذا أوان بيان بعض هذه النواقض على شيء من التفصيل وسأذكر ما يكثر فيه الوقوع -ولا حول ولا قوة إلا بالله- وما يكثر حوله الجدل والخلاف.
أولاً: الاعتراض على حكمة التشريع لما خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وأسكنه الجنة، أخبره سبحانه وتعالى أنه وطنه، ولما عصى آدم وأهبطه الله إلى الأرض كانت فترة حياته عليها وحياة ذريته فترة اختبار وابتلاء يكون ثمرته العودة إلى الجنة لمن جاز هذا الاختبار بنجاح، ليدخل الجنة عن جدارة واستحقاق، والمصير إلى الجحيم لمن عطل القوى التي آتاها الله إليه، ولمن نسي التكريم الذي خلق من أجله. والاختبار والابتلاء إنما هو الأمر والنهي. قال العلماء من السلف في قول الله تبارك وتعالى: وهذا الأمر والنهي هو التشريع سواء كان من العبادات أم المعاملات أم الأخلاق. فإذا كان مقصود الخلق هو الابتلاء بالأمر والنهي فإن التشريع في هذه الصورة يصبح واجباً ملزماً، وفرضاً لا يجوز مخالفته لأنه غاية في ذاته من خلق الخلق وقد تولى ربنا بنفسه سبحانه وتعالى أمر هذا التشريع وقال: وعندما وضع الله التشريع للبشر على ألسنة رسله فقد أنزل ذلك بعلمه وحكمته فهو العليم سبحانه وتعالى بما يصلح الناس وما يفسدهم.. وبهذه المقدمة نعلم أن الاعتراض على التشريع اعتراض على واضعه ومنزله سبحانه وتعالى، وهذا كفر. ومن المعلوم قطعاً أن "لا إله إلا الله" تقتضي الشهادة لله سبحانه وتعالى بالخلق والأمر، فمن أقر بالخلق فقط وجرد الله سبحانه وتعالى من الأمر وقال: للبشر أن يشرعوا لأنفسهم ما يرونه صالحاً لحياتهم فقد كفر وأشرك. بل لا إله إلا الله معناه لا خالق ولا معبود ولا إله يطاع أمره وينفذ حكمه إلا الله سبحانه وتعالى: ولا يفيد بالطبع الإقرار العام بحق الله عز وجل في التشريع، ونفي الحكمة عن جزئية واحدة من تشريعه لأن الرب تبارك وتعالى ليس محلاً للنقص والغفلة وقد حدث في المجتمع المسلم الأول في مكة شيء من هذا عندما نهى سبحانه وتعالى عن أكل الميتة، وكانت العرب تأكلها ألقى الشيطان في نفوس أتباعه شبهة ليمزق بها المجتمع المسلم الناشيء فقال لهم: سلوا محمداً عن الشاة تصبح ميتة من قتلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله، فقال المشركون: ما تقتلونه أنتم بأيديكم تقولون عنه حلال، مذكى وتأكلونه، وما يقتله الله تقولون عنه ميت حرام وتنهون عنه. أأنتم أفضل من الله؟ وانطلت هذه الشبهة الصغيرة على بعض النفوس الضعيفة فأنزل الله بيان الأمر قال تعالى: فجعل سبحانه وتعالى طاعة المشركين في جزئية من التشريع شركاً به سبحانه وتعالى وذلك أنه اعتراف بحق غيره في التشريع، واعتراض على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر واضح ظاهر والحمد لله. وقد فشى في أوساط المسلمين اليوم ترديد شبه أعداء الإسلام فنقلوا واعتقدوا ما بثوه من اعتراض على تشريع الله، ولا يكاد اليوم يخلو حكم شرعي من أحكام الإسلام إلا ونسمع الاعتراض عليه وأظهر ذلك تعدد الزوجات، والطلاق، والرق، وحد السرقة، وحكم القصاص وحد الزنا.. الخ وترديد من يشهد أن لا إله إلا الله لمثل هذه الاعتراضات دون فهم ووعي لحكم ذلك أمر خطير، واعتقاد انتقاء الحكمة من هذه الشرائع والأحكام والحدود كفر بالله تبارك وتعالى. وهذا الأمر أعني كفر المعترض على التشريع أشد وضوحاً فيمن ينكر الشريعة جملة. ويرى أنها لا تساير نظام حياة الناس ولا تناسب رقيهم وتطورهم المادي، فهؤلاء خارجون عن الإسلام سواء كانوا مسلمين قبلاً أو لم يسبق لهم إيمان وشهادة. ولكن أرجو أن يعلم أن الاعتراض قد يصدر أحياناً من مسلم يفاجئه الحكم ولا يرى الحكمة منه مباشرة، ولا يخرج بهذا عن الإسلام إلا بعد أن يبين له فلا يرجع إلى الله، ولا يفيء إلى أمره عز وجل. ومن ذلك ما صدر عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عندما سمع أهكذا أنزلت يا رسول الله؟.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟..] فقالوا يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته، فقال سعد: والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق وأنها من الله، ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعاً قد تفخدها رجل لم يكن لي أن أهيجه، ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته.. ثم أنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك والشاهد في سوقي لهذا الحديث أن أبين أنه يحصل للمسلم أحياناً الاستفسار في صورة الاعتراض على حكم الله، ولا يكون هذا مخرجاً له عن الإسلام. وقد حدث مثل هذا لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عندما اعترض على صلح الحديبية الذي أبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين، ورأى عمر رضي الله تعالى عنه أن فيه انتقاصاً لحق المسلمين ورضاً بالدنية بالدين، ثم جاء الأمر على خلاف ظنه ورأيه فكان صلح الحديبية أعظم فتح في الإسلام. والشاهد في هذا أيضاً أنه جابه الرسول وأبا بكر بالإنكار والاعتراض ولم يكن ذلك خروجاً منه عن دائرة الإسلام رضي الله تعالى عنه وأرضاه. وخلاصة الأمر أن الاعتراض على الشريعة إذا أصبح عقيدة يعتقدها صاحبها ويطعن بها في حكمة التشريع كان هذا مخرجاً له عن دائرة الإسلام، ولا يختلف هذا الأمر -أعني الاعتراض على حكمة التشريع- عن الاعتراض على ما شرع الله لنبيه ورضى له. فالاعتراض على ما أباح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من مباح كالزواج بأكثر من أربع، وأخذ الخمس من المغنم وغير ذلك مما اختص به صلوات الله وسلامه عليه، تعتبر طعناً في الرسالة واتهاماً لاختيار الله للرسول صلى الله عليه وسلم. واتهام اختيار الله كفر به سبحانه وتعالى، ومما يجرح القلب حزناً على مسلمي اليوم اعتراضهم على ما أباح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فهل هؤلاء مسلمون؟ وخلاصة هذا الأمر أن موقف المسلم من تشريع الله عز وجل هو الرضى والتسليم (سمعنا وأطعنا) هذا شعار المسلم دائماً ولا بأس أن يسأل عن الحكمة ويلتمسها، لأن ظهور حكمة التشريع تزيد المؤمن إيماناً، وتقوي صلته بربه جل وعلا. وشتان بين أن يكون هناك تلمس لحكمة التشريع وبين أن يكون هناك اعتراض على حكمة التشريع، فدأب المسلم دائماً أن يتلمس حكمة الله في تشريعه للعباد، وقد نص سبحانه وتعالى عن الحكمة في معظم تشريعاته. ودأب الكافر الاعتراض والاستهزاء بتشريع الله تبارك وتعالى، قال تعالى:
ثانياً: الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل ما دام أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل تشريعه لعباده ليلتزموا به، وأنه لم يخيرهم سبحانه وتعالى في الأخذ به أو تركه وإنما فرض هذا وألزمه، وأخبر سبحانه أن هذا هو المقصود من خلقهم حتى لا يكون خلقهم عبثاً ولا هملاً، فإن مقتضى الإيمان به هو تنفيذ أمره ونهيه، فإذا كان معنى لا إله إلا الله لا مطاع طاعة مطلقة إلا الله ولا مشرع للناس في شئون حياتهم إلا الله، أقول ما دام أن أمر الإيمان كذلك فإن هذا الأمر ينتقض بالتعالي عن أمره، والخروج عن حكمه، وإبطال شريعته والحكم بغيرها، وقد نص الله على هذا الأمر في كتابه بنصوص صريحة واضحة، قال تعالى: وكان هذا تعقيباً على اليهود الذين أرادوا إبطال حكم الرجم الثابت في توراتهم وذلك بسؤال الرسول عن هذا الحكم لعله يفتي بخلافه أو بحكم أخف من الرجم فيكون لهم مندوحة عند الله في زعمهم - في التنصل من هذا الحكم. قال تعالى: وها أنت ترى أن الله سبحانه وتعالى قد ختم الآية -وإن كانت في شأن اليهود- بحكم عام يشمل كل أمة لها رسالة وتشريع. وهناك سؤال معروف: هل يعد كافراً كل من حكم في قضية ما بحكم غير حكم الله تبارك وتعالى؟ والجواب على ذلك أن هناك صوراً ثلاثاً لهذا الأمر: الأولى: أن يحكم بغير ما أنزل معتقداً أن ما حكم به هو الأفضل، وهذا كفر بإجماع المسلمين ولا مخالف لذلك. الثانية: أن يحكم بغير ما أنزل الله معتقداً أن ما حكم به متساو مع حكم الله وأن هذا مثل هذا. وهذا أيضاً كفر بالإجماع لأنه يساوي الله بخلقه. كما قال تعالى: الثالثة: أن يعتقد أن حكم الله هو الخير وهو الحق، وكل حكم يخالفه مرجوح باطل، ولكنه يحكم به بدافع من شهوة، أو رشوة، أو منصب أو غير ذلك. وهذا الذي قال فيه ابن عباس رضي الله عنهما. (كفر دون كفر) أي كفره لا يخرجه من ملة الإسلام ومن جماعة المسلمين. وبهذا يكون الحاكم واضحاً في شأن الذين يجعلون شريعة الله على قدم المساواة مع شريعة أنفسهم أو من يتبعونهم من الكفار وفي شأن الذين يصفون حكم الله بالرجعية والجمود والتخلف عن مسايرة الزمن. وثمة نقطة هامة في هذا الصدد أحب بيانها حتى لا تلتبس الأمور وهي أن اجتهاد الأئمة والفقهاء في عصر ما لا يعتبر حكماً لله تبارك وتعالى وإنما حكم الله هو نص كتابه، وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، وما سوى ذلك معرض للصواب والخطأ لأنه اجتهاد المجتهد يصيب ويخطئ وأما حكم الله فلا يخطئ أبداً سبحانه وتعالى. فلا يعد مخالفاً لحكم الله تبارك وتعالى وخارجاً عنه من خالف شيئاً من أقوال الأئمة والفقهاء. وإنما يعتبر كذلك من خالف النصوص الصريحة الواضحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: الاستهزاء بالمسلم لإسلامه، ومعاداته لدينه قد يغفل كثير من الناس عن هذا الحكم فيعتقدون -كما بينت سابقاً- أن الاستهزاء بشعيرة من شعائر الإسلام كفر. والاستهزاء بالمسلم ليس كفراً، وهذا أمر يحتاج إلى بيان وتفصيل. 1- الاستهزاء بالمسلم قد يكون لصفة خلقية (بفتح الخاء وإسكان اللام) أو لخلق يتصف به،أو لتصرف أو سلوك ما، وهذه معصية ليست كفراً. قال تعالى: فجعل الله تبارك وتعالى هذه الأفعال فسقاً ولكن ليكن معلوماً أن الاستهزاء بالصفات الخلقية والتي لا تدخل للإنسان فيها قد يجر إلى الكفر لأن اختلاف الألوان والأشكال والألسنة من مراد الله تبارك وتعالى بل ومن آياته. قال تعالى: 2- وقد يكون الاستهزاء بالمسلم من أجل إسلامه فيستهزأ به لتمسكه بشعيرة من شعائر الإسلام. أو لعمله عملاً من أعمال الإيمان. وهنا ينصرف الاستهزاء إلى الدين ويكون هذا العمل كفراً. وقد وصف الله الكفار إن هذا هو دينهم مع المؤمنين قال تعالى: فهؤلاء المجرمون يضحكون من المؤمنين ويستهزئون بهم ويتغامزون إذا مروا عليهم ومع ذلك يرجع كل مجرم إلى منزله فرحاً فخوراً بنفسه وكأنه لم يعمل جريمة يحاسب عليها، ثم إنهم يصفون المؤمنين بالضلال، وما أشبه هذا بقول مجرمي زماننا عن المؤمنين "انهم معقدون، رجعيون، نسوا حياتهم، ضيعوا شبابهم، لا يستمتعون بمتع الحياة، ولذائذها المبذولة".. قال تعالى: وخلاصة هذا الأمر أن الاستهزاء بالمسلم لإسلامه كفر لأنه في حقيقته استهزاء بالإسلام، والاستهزاء بالإسلام هو طعن في واضعه ومنزله سبحانه وتعالى ومعلوم ماذا يعني هذا. وبهذه المنزلة معاداة المؤمن لتدينه، فالعداوة مع مؤمن لشأن ما من شؤون الحياة وإعراضها إن كانت بحق فليس في هذا شيء وإن كانت بباطل فهي معصية. وأما عدوانه من أجل تدينه وتمسكه بالإسلام فهي كفر لأنه محاربة لدين الله ومحادة له. وصد عن سبيل الله فكثير من الناس -ولا حول ولا قوة إلا بالله- يكون الشخص محبباً إليهم محبوباً لديهم إذا كان موافقاً لأهوائهم تباعاً لشهواتهم. وما كاد يهتدي ويلتزم طريق الله تبارك وتعالى حتى يلاقي العداوة والبغضاء ممن كانوا له أصدقاء وهذا أمر خطير جداً نعوذ بالله منه. فإذا بلغت العداوة مبلغ فتنة المسلم عن دينه، وصده عن سبيل ربه فقد بلغت المنزلة منزلة الكفر، قال تعالى في وصف الكافرين: فقد وصف الله الكفار هنا بوصفين: الأول حبهم للدنيا عن الآخرة، والثاني صدهم عن سبيل الله ورغبتهم أن يظل طريقه سبحانه وتعالى معوجاً للسالكين فيه حتى ينصرف الناس عنه، وينفض الناس منه. وقد توعدهم الله سبحانه وتعالى بالويل لذلك فكيف بالذين يمارسون هذا الصد عن سبيل الله بتجنيد أجهزة الدولة ومقومات الأمة لذلك، وقد رأيت في صحيفة تصدر في بلاد عربية وإسلامية هذا الخبر (صدر في استانبول قرار يقضي بأن لا تسير المرأة محجبة في شارع عام، أسوة بعربات الكارو والحمير) انتهى. أهناك صد عن دين الله أبلغ من هذا؟ وانظر إلى فعل الصحافي الخبيث (أسوة بعربات الكارو والحمير) فليس بالطبع في القرار الصادر هذه العبارة وإن كان القرار في ذاته كفراً، ولكن الصحيفة ترددها لتشفي الصدور المقرحة أن ينشر دين الله عز وجل وتصد أي امرأة مسلمة أن تتزيا بزي الإسلام، فالصد عن سبيل الله عز وجل بأي صورة من الصور، كفر بالله تبارك وتعالى لأن المؤمن يفرح إذا انتشر دين الله وعلت كلمته والكافر ليس كذلك، ومن أبلغ الأمور صداً عن سبيل الله الاستهزاء بالمسلم لإسلامه، وذلك أن المبتدي في أمر الإيمان قد ينصرف عنه إذا قابل استهزاء الناس وسخريتهم وأبلغ من ذلك فتنه وتعذيبه ليرجع عن عقيدته، فويل للمجرمين الذين يعذبون المسلمين ويفتنونهم عن دينهم ويصدونهم عن سبيل الله ومن زعم أن أولئك ليسوا بكفار فقد جهل وكابر وعاند فما الكفر إذن، إن لم تكن فتنة المؤمن عن دينه كفراً؟..
رابعاً: موالاة أعداء الله العقيدة الواحدة والتشريع الواحد تفرضان على المؤمنين الالتزام بوحدة جامعة وأخوة لازمة لا يكمل إيمان فرد فيها إلا بأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فالعقيدة الواحدة إيمان واحد بالله سبحانه وتعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والشريعة الواحدة تفرض الوحدة والمحبة، وتنفي الفرقة والخلاف في كل صورة من صورها فمن الوقوف في الصلاة صفاً واحداً بين يدي الله إلى إزالة الأذى عن طريق المسلمين نجد الرغبة في الالتحام والقرب والأخوة، فأدنى عمل في الإسلام وهو رفع الأذى عن طريق المسلمين يشعر بالحب والقرب من المسلم لإخوانه ومجتمعه، وهكذا الزكاة والصيام والحج يكاد أن يكون المقصد الأول من كل ذلك بعد عبادة الله تبارك وتعالى تحبيب المسلم من أخيه المسلم، وربط المسلمين بأخوة جامعة، ووحدة عجيبة، هذه الوحدة والأخوة يصبح السعي في تفريقها وتمزيقها جريمة من الجرائم تصل إلى الكفر في بعض صورها وتكون معصية وإثماً وظلماً في صور أخرى مخففة لا تتصل بالعقيدة أعني استحلال الفرقة والخلاف، فإن استحلال تفريق المسلمين وإذهاب وحدتهم كفر مخرج من الملة بلا خلاف. وإذا فهمت هذه المقدمة جيداً يصبح الوصول إلى الحكم الآتي سهلاً ميسوراً، فما المقصود بولاية المسلم لأعداء الله. - الولاية في لغة العرب تطلق على النصر والتأييد والإعانة فلان ولي لفلان وموال له أي مؤيد وناصر. والله ولي الذين آمنوا: ناصرهم ومؤيدهم ومعينهم.. أولياء الله الذين يقومون بنصره سبحانه وتعالى كما قال عز وجل: فهذه الآية نص صريح في النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء والحكم على من فعل ذلك من المسلمين بأنه منهم أي يهودي أو نصراني، وسمى الله من يفعل ذلك ظالماً لأنه يضع الولاية في غير محلها، فبدلاً من أن يوالي الله ورسوله والمؤمنين يوالي أعداء الله من اليهود والنصارى ومن على شاكلتهم، ولكن ثمة تفصيل في أمر الولاية وهذا التفصيل ينقسم إلى قسمين: (ا) القسم الأول: بحسب حالة اليهود والنصارى ووضعهم. (ب) القسم الثاني: بحسب نوع هذه الولاية والتأييد. فأما القسم الأول: فإن من اليهود والنصارى وغيرهم محاربين معادين لله ورسوله وللمؤمنين وهؤلاء لا علاقة مع أمة الإسلام بهم إلا العداوة والحرب وقد نزلت الآيات في شأن جماعة من هذا القبيل وهم حلفاء عبدالله بن أبي بن سلول من اليهود الذين أراد الرسول تأديبهم لخيانتهم فاستشفع ابن سلول فيهم ونهاه الرسول عن ذلك ونزلت الآية السابقة في هذا الشأن فلا يجوز بحال موالاة المحاربين لأمة الإسلام سواء كانت هذه الحرب مباشرة أي بمساعدتهم لأعداء الإسلام، وجميع أنواع الولاية من حب ونصر وتأييد وإعانة مرفوضة مع هؤلاء، ومن فعل فقد انتقل من معسكر المسلمين إلى معسكر الكافرين. وأما غير المحاربين منهم وهم المحايدون المستأمنون في بلاد الإسلام أو القاطنون في غيرها الذين لا يحاربون المسلمين بأنفسهم ولا بمساعدتهم لغيرهم فهؤلاء يجوز أن يكون بين المسلمين وبينهم نوع من ولاية نص الله تبارك وتعالى عليها بقوله: وأكبر الإثم وأعظمه في هذا الأمر هو ولاية المسلم للكافر على أخيه المسلم، أعني أن يعاضد المسلم الكافر ضد إخوانه المسلمين هذه ولاية الكفر المخرجة من الإسلام والعياذ بالله، لأنها بمثابة الحرب للإسلام والمسلمين ودين الله عز وجل. وكم يمارس مثل هذا ضعاف النفوس من الحكام رغبة في أن يحفظ عليهم أعداء الإسلام مناصبهم وكراسيهم. إلا أنها مناصب زائلة. وأنها لحسرة وندامة عليهم يوم القيامة! وخلاصة هذا الأمر هو أن المسلمين أمة واحدة يكون ولاء كل مسلم لها، وقلبه معها ويده ولسانه وسلاحه معها، ولا يجوز أن يصرف شيء من ذلك لأعداء الإسلام، فمن فعل غير ذلك فقد انتقل من معسكر الإسلام إلى معسكر الكفر شاء أم أبى. انظر كيف يقسم الله الناس إلى معسكرين لا ثالث لهما: قال تعالى: ثم يعقب بعد هذا التقسيم للناس بقوله تعالى: إن هذا الانفصال بين أمة الإسلام وأمة الكفر الداعية إلى الكفر المحاربة للمسلمين واجب ولازم لاستمرار هذه الدعوة وبقاء هذه الرسالة فإن لم يكن في الأوطان والدول فليكن أولاً في العقيدة والشعور ولا بد، وبغير هذا لا يكون هناك إسلام.
خامساً: الرضا بفشو المنكر وانتشاره يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل] (مسلم). هذا الحديث نص على أن من مستلزمات الإيمان إنكار بإحدى وسائل الإنكار السالفة وهي اليد ثم اللسان ثم القلب، وإنكار المنكر باليد معناه إزالته بالقوة، وأما باللسان فمعروف، وأما إنكار المنكر بالقلب فهو كراهيته وبغضه وبغض فاعليه وكراهيتهم، وهذه الصورة الأخيرة التي هي أدنى صور الإنكار لا تعرض المؤمن للأذى وهي أقل مستويات الإيمان. ومفهوم هذا الحديث أن الذي لا يكره المنكر ولا يبغض أهله فليس بمؤمن لقول الرسول صلى الله عليه وسلم [وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل]. وهذا نص صريح واضح ومعلوم أنه لا يخرج من النار من في قلبه إيمان أقل من هذا، لأنه لا أقل من هذا. وعلى هذا يكون الراضون بفشو المنكر وانتشاره كفاراً فاقدي الإيمان وإن زعموا أنهم من المسلمين. فكيف بمن يبارك المنكر ويحبه؟! فكم ممن ينسب إلى الإسلام اليوم يحب ويرضى ويبارك أن تتعرى النساء في الأسواق والمجتمعات العامة وأن يتم اختلاط الرجال بالنساء على هذه الصورة ليمتع نفسه بالمتاع الحرام. وكم منهم من يسب المجتمعات الإسلامية المحافظة ويستهزئ بها وبأهلها ويتهمهم بالرجعية والتأخر وشتى نعوت النقص والتحقير.. وكم من هؤلاء من يفرق إذا نودي في الناس بوجوب تحكيم كتاب الله تبارك وتعالى وغاية فرقه وخوفه أن تختفي هذه الشهوات المحرمة وتغلق الخمارات والبارات وتختفي اللذائذ الرخيصة!! وهؤلاء هم الذين شرحوا بالكفر صدراً، وضاقت صدورهم أن يذعنوا للإسلام ديناً ودولة، ومجتمعاً نظيفاً طاهراً والحكم على هؤلاء بأنهم مسلمون حكم ظالم وجاهل يصدر ممن لم يعرف ما الإسلام وما رسالته وما غايته في الحياة والناس. فليراجع كل مؤمن إيمانه ولينظر هل اختار حقاً دين الله منهج حياة وغاية وجود، فيضع نفسه في صف المسلمين محباً لعقيدتهم راضياً بشريعتهم كارهاً للكفر بكل صوره ومظاهره وللمنكر بكل أشكاله. وهذا هو الإيمان. وفي معنى حديث هذا الباب الحديث الآخر عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان] (البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم). ومعنى هذا أن إنكار المنكر بالقلب أضعف الإيمان أنه ليس هناك إيمان وراء هذا. وأما السبب في ذلك أن الإيمان يستلزم حب شريعة الله تبارك وتعالى، والرغبة في تحكيمها، وأن تكون كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فإذا لم يتحرك القلب تجاه المعصية فيبغضها ويبغض أهلها فمعنى هذا أنه رضي بالمنكر، والرضا بالمنكر إقرار له ومعنى هذا الانسلاخ من دين الله تبارك وتعالى ومضادة الإيمان به. فإذا انضاف إلى الإقرار والرضا الحب والمتابعة، والإشادة والمباركة فقد اجتمعت جريمتان: كفر وصد عن سبيل الله تبارك وتعالى لأن محبة المنكر أن يفشو والرغبة في أن يسود الباطل، إنما هو الرغبة في أن تكون كلمة الله دون كلمة الكفر. وهذا نقيض الإيمان الذي يستلزم العمل لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. وهذا الأمر يحتاج من كل مسلم إلى مراعاة وعناية فائقة ليخلص قلبه من كل حب لغير شريعة الله، ومن كل هوى يناقض دينه سبحانه وتعالى والله المستعان.
الفرق بين الكفر والكافر: في الصفحات السابقة -عرفنا بحول الله- حقيقة الإيمان ولازمه وهو العمل وما ينقض هذا الإيمان ويذهب به، وقد تردد في هذه الرسالة اسم الكفر كثيراً ولا شك أننا نعلم أن الكفر الآن هو الخروج عن الإيمان والانسلاخ منه، وهذا هو المعنى الحقيقي لمعنى الكفر. والكفر لغة معناه الستر والتغطية فالعرب تسمي الليل كافراً لأنه يستر الأشياء ويخفيها وتسمي الفلاح كافراً لأنه يغطي الحب في التراب، ومن هذا المعنى قوله تعالى: ومعنى الكفار هنا الزراع، والسبب في تسمية الخارج عن الإيمان كافراً أنه يرى أدلة التوحيد، وما يدعوه إلى الإيمان بربه جل وعلا ثم يصر مستكبراً على باطله وكفره. انظر كلام الله عن إمام الكافرين في الأرض فرعون الذي ترك الإيمان بالله جحوداً ونكراناً لا جهلاً، قال تعالى على لسان موسى لفرعون: أي لقد علمت يا فرعون أن الله تبارك وتعالى خالق السماوات والأرض هو الذي أنزل ما شاهدته من الآيات كالعصا واليد لتبصر أنت وقومك، وتعلموا أنني رسول من الله عز وجل وكذلك أخبر سبحانه وتعالى عن قوم فرعون أنهم علموا الحق ولكنهم كذبوه وزاغوا عنه، قال تعالى: ومعنى هذا كله أن الكفر شرعاً هو رد الحق بعد معرفته، ومعنى هذا أن الذي يرد الحق جهلاً أو يفعل شيئاً من الكفر جاهلاً ظاناً أنه من الإسلام وأنه فعل ما لا يضاد الإيمان، فليس بكافر حتى تقوم الحجة عليه ويعلم الحق فيرده على النحو المبين سابقاً في تعريف الإيمان ومستلزماته ونواقضه، وكذلك لا يكون كافراً من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يفعل مناقضاً للإيمان جاهلاً به غير عالم أنه مخرج له من الإيمان فإن علم ورد وكابر وجحد فقد كفر والعياذ بالله. وقد فعل بعض الصحابة شيئاً من هذه المناقضات للإيمان عن جهل بحكمها فأنكر عليهم الرسول إنكاراً شديداً ولم يخرجهم من الإيمان. فعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه قال قلت يا رسول الله إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله؟ بعد أن قالها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تقتله] قال فقلت يا رسول الله إنه قطع إحدى يدي. ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها] (رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد)، والمعنى أنه بذلك تقتل مؤمناً وتصبح كافراً ولهذا لما قتل أسامة بن زيد رجلاً قال لا إله إلا الله في غزوة من الغزوات عنفه الرسول صلى الله عليه وسلم تعنيفاً شديداً وظل يردد عليه قوله [قال لا إله إلا الله وقتلته؟..] حتى أن أسامة ليقول تمنيت أني أسلمت يومئذ، أي لم أكن أسلمت قبل (البخاري ومسلم وأحمد). والسبب في ذلك أن أسامة كان جاهلاً بهذا الحكم والقاعدة الشرعية المعروفة هي أن المؤاخذة لا تكون إلا بعد العلم، قال تعالى: فقرر الله سبحانه وتعالى في ختام هذا الحكم هذه القاعدة الشرعية العظيمة وهي أن المؤاخذة دائماً بعد العلم. وهذا من فضل الله ورحمته فله الحمد ويشبه مسألة أسامة ما جاء على بعض ألسنة المسلمين مما يعتبر شركاً، ومعلوم أن الشرك مناقض للإيمان كما قال أحدهم للرسول صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت فقال: [أجعلتني لله نداً قال ما شاء الله وحده] (أحمد). فرده إلى الحكم وعلمه إياه. وما قاله بعض مسلمة الفتح عندما خرج بهم الرسول إلى هوازن ومروا على شجرة للمشركين كانوا ينوطون (يعلقون) بها سيوفهم ليلة المعركة زاعمين أن من فعل ذلك لاقى النصر في معركته. يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفس محمد بيده، كما قال بنو إسرائيل لموسى: وهذه الأدلة وغيرها كثير نستفيد منها أنه يجب أن نفرق دائماً بين الكفر والكافر، فالكفر أعمال وأقوال ومناقضات للإيمان قد يصدر بعضها جهلاً من المسلمين، فلا يجوز والحالة هذه والحكم عليهم بالكفر، بل يجب تعليمهم أن هذا العمل كفر أو شرك أو مناقض للإيمان، وذلك ليحذروه مستقبلاً، فمن آمن وأذعن فقد تمسك بإيمانه، ومن كابر فقد انتقل من الإيمان إلى الكفر والعياذ بالله، وأما الكافر فهو الذي ظهرت له أدلة الإيمان فجحدها وأنكرها، وعلم الحق فزاغ عنه ورده والعياذ بالله .
أخي المسلم، أرجو أن تكون قد جمعت في قلبك الآن الصورة الحقيقية التي يجب أن يكون المسلم عليها، وعرفت الصورة الحقيقية التي يتصف بها الكافر حتى تصدر أحكامك بعد على نور وبصيرة. ولتعلم أخي المسلم أن السبب في جهل المسلمين هذه الحقائق الأولية في عقيدة الإسلام هو من جراء العرف الكاذب. فما هذا العرف؟ ولماذا كان كاذباً؟ العرف هو ما يقبله الناس بوجه عام، ويتعارفون عليه، وهو خاضع دائماً لما يسود في مجتمعاتنا الإسلامية عقيدة عامة أن من قال لا إله إلا الله كان مسلماً، وهذه العقيدة في أساسها سليمة صحيحة. ولكن انظر ما طرأ عليها من التغيير والتبديل: (ا) لقد كانت هذه العقيدة تعني الإيمان بالإله الواحد خالق الكون ومدبر شؤونه والذي له الطاعة المطلقة والخضوع الكامل والخروج من معسكر الشرك إلى معسكر الإيمان عقيدة وتشريعاً وحباً وعاطفة فيكون ولاء المسلم لدينه وعقيدته وأهل دينه. ولا شك أن المسلمين كانوا يتفاوتون في مقدار تطبيق التزامات هذه العقيدة، فكان بعضهم يتهاون في القطاعات أو يقارف المنكرات والمعاصي ولكنه محافظ على الأصل السابق. (ب) ابتدأت العقيدة الناصعة الواضحة تضعف في النفوس، وينشأ في المسلمين أجيال يرثون الإسلام وراثة فيحملون أسماء إسلامية ويتكلمون لغة القرآن العربية، وينسبون إلى اسم الإسلام ويضعف لديهم مفهوم (لا إله إلا الله) فلا يدركون منه إلا أنه (لا خالق إلا الله) أو (لا موجود إلا الله) وابتدأ يظهر فيهم -بفعل المؤثرات المختلفة- الشرك بكل صوره ومظاهره من عبادة القبور ودعائها بل والأشجار والأحجار.. ثم جاء فصل تشريع الإسلام عن حياتهم وإقرار شريعة الكفر في بلادهم فنشأ فيهم من تحمس لذلك، ووصف شريعة الإسلام بالجمود والرجعية وأنها تستحيل على التطبيق في مجتمع الذرة والصاروخ، والعجب بعد.. أنهم يقولون لا إله إلا الله بل ويمارسون الصلاة والزكاة والصوم والحج. ومنهم من يخوض مستهزئاً بالمسلمين وخاصة أهل الدعوة منهم. بل ومنهم من أضحى شيوعياً، أو ملحداً يجاهد لإحلال شريعة الكفر محل شريعة الله. ثم يظن بعد أنه ما زال من أهل لا إله إلا الله (ومع ذلك فأرجو أن نفرق بين من عرف الحق من هؤلاء واطلع على رسالة الإسلام بحقيقتها. ومن بلغه الدين عن طريق بعض المشايخ الجهال الذين يفتون في كل شيء بلا علم. ويحاربون القوة المادية والوسائل الصالحة لأنها جاءت من طريق الكفار في زعمهم. فهؤلاء صادون عن سبيل الله، ومن عرف الإسلام عن طريقهم معذور برده فتاواهم الباطلة، وقصورهم وعنادهم، ولا يعتبر هذا رداً للإسلام الذي نزل من عند الله سبحانه وتعالى). (ج) هذا العرف الكاذب أعني إطلاق اسم المسلم على من ينسب إلى الإسلام فقط، أو يحمل اسماً إسلامياً كان السبب الأول في تمييع قضية الإسلام. وتشويه الصورة الحقيقية العلمية للمسلم. (د) ثم ابتدأت أفكار الشرك اللئيمة الخبيثة تلبس كفرها لباس الإسلام حتى يروج على من يعلل نفسه بأنه ما زال مسلماً، ومن يمسك لليوم بولائه العاطفي للإسلام فنشرت شريعة الكفر ونظامه باسم الإسلام، وهكذا رأى الناس أن الإسلام ثوب مشوه مرقع سخيف فهو مزيج من الشيوعية، والاشتراكية والديمقراطية والرأسمالية فضاعت بذلك صورة الإسلام المستقلة الفريدة. وضاعت ميزته الأولى أنه نظام الله وشريعته وليس للبشر فيه إلا الفهم والتطبيق. (هـ) إن الذين يعز عليهم أن يوزن الناس بميزان الإسلام، وأن يقيموا حسب موازينه وقيمه خوفاً من أن يكون كثير من الناس لا ينطبق عليهم الوصف الحقيقي لمسمى المسلم. ويلجؤون إلى هذا العرف الكاذب ليؤيدوا به حكمهم ودعوتهم يخطئون في حق أنفسهم، ويرتكبون الإثم في حق الإسلام الذي يشرفهم الانتساب إليه. وخير للناس أن يعرفوا الحق فيتبعونه وإن جحد منهم من جحد من أن يقروا على باطل ويتركوا في عماية. (و) لقد كان هذا العرف الكاذب أكبر صاد لليهود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبول الهداية، والانطواء تحت لواء الإسلام، فلقد جاؤوا الرسول وهم يعتقدون أنهم أهل دين الله وأنهم شعب الله الذي اختاره على العالمين، وأن الجنة خالصة لهم، وكل ذلك حق لو تمسكوا بالدين الصحيح، واتبعوا ما ألزمهم به دينهم من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتركوا ما أحدثوه من الفساد والتغيير والتحريف والتبديل في كتاب ربهم وشريعتهم، ولكنهم تمسكوا بالباطل وردوا الحق فكفروا ولم تفدهم أمانيهم في الجنة والمغفرة شيئاً. وما أشبه الليلة بالبارحة ها هي معاني لا إله إلا الله تتبدل في حياة المسلمين فيشركون بالله في العبادة والتشريع والطاعة، ويستهزئون برسالة الإسلام ويقتلون الدعاة إلى الله، ويفتنونهم عن دينهم -كما فعل اليهود بأنبيائهم ودعاتهم- ويهللون للكفر أياً كان، ومع ذلك يفزعون ويجزعون إذا قيل لهم أن ما تمارسونه كفر مناقض للإيمان. وأن لا إله إلا الله التي تقرون بها تلزمكم بغير هذا تماماً وتحتم عليكم غير هذا. (ز) واجب الدعاة اليوم الجهاد لإقرار المعنى الصحيح لهذه الكلمة الصحيحة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) حيث تعني الإيمان بالله والخضوع لأمره، والإقرار بشريعته، والكفر بكل ما يعبد من دون الله سواء كان صنماً يدعى أو حاكماً يشرع للناس نظاماً من عند نفسه لم يأذن به الله، والولاء للإسلام والمسلمين قولاً وعملاً والبغض للكفر والكافرين قلباً ولساناً ويداً. وإنكار القلب أضعف الإيمان وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. (ح) تغيير هذا العرف الكاذب واجب اليوم ليس بمجابهة عوام المسلمين بالكفر، ولكن بعودتهم إلى المعنى الحقيقي لـ (لا إله إلا الله). وقد عرفنا في الفصل السابق الفرق بين الكفر والكافر فليس كافراً إلا من يعلم الحق فيرده، ويماري بالباطل. (ط) وهنا سنصل إلى هذا السؤال اللازم، وعلى أي صورة منذ البدء سنعامل عامة المسلمين؟ أنعاملهم على أن حقيقة الإيمان قد ضاعت وجهلت وأصبح المجتمع خالصاً، ولا نحكم بالإيمان إلا لمن عرفنا حقيقة دينه وولائه؟.. أم سنعاملهم على أنهم مسلمون قد ورثوا الإسلام وتشرب كثيراً منهم عقائد الكفر جهلاً وغفلة؟ والحق الذي لا مراء فيه أنه يجب الحكم على عوام الناس بأنهم مسلمون، ما لم يظهر من أحدهم ناقض من نواقض الإيمان عالماً به، مكابراً فيه. وإن الواجب أن يعاملوا معاملة المسلمين المؤمنين، وأن يعلموا حقيقة الإيمان، وحدود الإسلام. وأن لا ينقل فرد منهم عن هذه الحقيقة إلا بفعل مناقض للإيمان بعد قيام الحجة عليه. وبراهين هذا الحكم كثيرة منها: 1- أن هذه الأمة قد ورثت عقيدة التوحيد والإيمان وغرست فيها، وأن هذه التحولات، وشيوع التناقضات مع قضايا الإيمان إنما هو بفعل الجهل والغفلة، وبفعل شياطين الإنس والجن الذين لبسوا على الناس دينهم، وأوهموهم أن الإسلام لا يناقض ما غرسوه من أفكار وعقائد كافرة، ولذلك اعتقد كثير منهم بالباطل جهلاً بحقيقة دينه، ويوم يعلم هؤلاء الناس حدود دينهم على الحقيقة، ولوازم عقيدتهم وإيمانهم. فلا شك أن الكثير منهم سيسارع إلى تصحيح معتقده واستغفار ربه. 2- إن الحجة -وأعني بها تمييز الحق من الباطل- في كثير من مسائل العقيدة لم تقم قياماً يتحدد معه أن يهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة. كيف وطائفة كبيرة من العلماء المضللين هم وراء نشر الباطل، وتزييف رسالة الإسلام، وتمييع قضية الإيمان، وإقرار الكفر في بلاد الإسلام، وإظهار أهل الحق والإيمان بمظهر الخارج عن تعاليم الإيمان والإسلام. 3- أنه لم يقم بعد غلبة أنظمة الكفر على نظام الإسلام تمييز يجعل أهل التوحيد والإيمان في صف واحد. بل اختلط أمر الناس اختلاطاً عظيماً فكيف يمكن الحكم على الناس وهم بهذه الصورة. 4- إن الأصل فيمن ينسب إلى الإسلام أنه مسلم، ولا يخالف في هذا الأصل عاقل، ولذلك يحرم -يقيناً- إخراجه عن هذا المسمى إلا بأن يقول بلسانه، أو يشهد بأعماله أنه ليس من المسلمين.
قد عرفنا في فصول الكتاب السابقة أن هناك معاص لا تخرج المسلم من الإيمان، ما لم يستحلها، ونعني بالاستحلال تبرير المعصية وعدم الخوف من العقوبة، والسرقة، وشرب الخمر، وغير ذلك معاص قد يقارفها المسلم المؤمن في لحظة من لحظات ضعفه وغفلته، ولا تخرجه عن الإيمان، ودليل هذا معلوم من الكتاب والسنة، ومن أشهر ذلك حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم عليه ثوب أبيض، ثم أتيته وقد استيقظ، فجلست إليه، فقال: [ما من عبد قال لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة]. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: [وإن زنى وإن سرق] ثلاثاً، ثم قال في الرابعة : [على رغم أنف أبي ذر] (البخاري ومسلم والترمذي). فهذا الحديث حجة واضحة في هذا الصدد وليس له مخالف عند أهل السنة والجماعة، ولكن بعضهم تهاون في هذا الأمر حتى ظن أن ممارسة المعاصي دائماً دون خوف من عقاب وخشية من عذاب غير مناقضة للإيمان، وقد فصلت هذا الأمر سابقاً بحمد الله وتوفيقه، واشتط في هذا الأمر الخوارج والمعتزلة فظنوا أن المعصية هادمة لكل عمل صحيح سلف من المؤمن فإن مات ولم يتب دخل النار أبداً وهذا غلو بعيد. وحديث أبو ذر هذا لا يناقض حديث أبي هريرة الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: [لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن] (ابن ماجه) فإن هذا الحديث نص في انتفاء الإيمان هو غياب حقيقته من القلب، ومن فهم قضية الإيمان -كما أسلفت القول فيها- عرف معنى غياب الحقيقة وقت الفعل، فالإيمان خرف من الله الواحد، المطلع على كل شيء، القادر على عذاب من يعصيه، هذه الحقيقة من حقائق الإيمان، أترى أن إنساناً يرتكب جريمة الزنا -مثلاً- وهو يعلم أن ربه مطلع عليه، مراقب له وأنه سيحاسبه على ذلك وأنه ملاقيه يوم القيامة، ويبقى مستمراً في فعلته القبيحة!.. لو آمن هذا الرجل وقت هذه الجريمة لجمد الدم في عروقه، ولقام من فوره خائفاً فزعاً. ولكن استمراره دليل غياب حقيقة الإيمان من قلبه، فإذا انتهى وتذكر وأبصر وندم وخاف، وهذا هو الإيمان وإن لم يتذكر ولم يندم ولم يخف فلا إيمانه البتة لا قبل الجريمة ولا أثناءها، ولا بعدها.. ومن شهد بالإيمان لمثل هذا الذي لا يندم على فعلته ولا يخاف الله بسبب جرائمه فقد جهل وشهد بالباطل. ولكن ثمة أمور تحتاج إلى تفصيل وإيضاح، فإن بعض الناس يحكم فيها حكماً خاطئاً بسبب التصور الناقص، وهي: 1- النطق بكلمة الكفر اضطراراً لا يخرج المسلم من دينه، ولا ينقل المؤمن عن إيمانه، والأصل في هذا قول الله تبارك وتعالى: وقد نزلت الآيات بشأن عمار بن ياسر لما اضطر إلى أن يقول للكفار ما يريدون، بعد أن عذبت أمه سمية رضي الله عنها وأرضاها بأن ربطت بين جملين ثم جاء عدو الله أبو جهل فاتهمها بأنها لم تسلم إلا من أجل الرجال!!.. ثم ضربها في عنقها بحربة فأرداها قتيلة. ثم مات زوجها تحت التعذيب بعد ذلك، وقد رخص رسول الله لعمار الذي أتى الرسول باكياً من قوله بلسانه كلمة الكفر، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحزانه وقال: [إن عادوا فعد] (رواه ابن جرير والبيهقي)، أي إن عادوا إلى التعذيب فعد إلى القول. ثم نزلت الآيات لتدوين هذه الرخصة إلى يوم القيامة. ولا يختلف اثنان من طلبة العلم أن الصبر على الأذى مع عدم النطق بالكلمة الخبيثة خير من النطق والنجاة من العذاب أو الموت. فقد ظن البعض أن هناك حالات قد يكون فيها إظهار الكفر خير من إعلان الإسلام لما يسمونه (مصلحة الدعوة) وليس هناك مصلحة للدعوة أكبر من أن يصبر حاملوها على الأذى ويموتوا في سبيل الله، ولم تتدنس ألسنتهم بكلمة الكفر، وقد يكون استشهاد رجل أو رجال لعدم نطقهم بكلمة الكفر أبلغ أثراً في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى من بقاء طوابير طويلة تنطق بكلمة الكفر!. وتعطي الطغاة ما يريدون.. فيجب أن يظل الاعتقاد السليم الصحيح أنها رخصة ولن تتعدى ذلك فتكون فضيلة وفضلاً وسابقة.. ولكن يجب أن يفرق بين ذلك -أعني النطق بكلمة الكفر اضطراراً- وبين إخفاء حقيقة المعتقد، فإخفاء الإيمان في ظرف من الظروف قد يكون فضيلة، وسياسة شرعية واجبة، وقد مارس هذا فضلاء الصحابة رضوان الله عليهم بمكة. ففي الحديث الصحيح عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [احصوا لي كل من تلفظ بالإسلام] قال: قلنا: يا رسول الله أتخاف علينا، ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا]. قال: فابتلينا حتى جعل الرجل منا ما يصلي إلا سراً (مسلم وابن ماجه وأحمد)، وكان هذا بالطبع في مكة. فإخفاء المسلمين للشعائر في هذه الحقبة ليس جبناً، ولا رخصة غيرها أفضل منها وإنما هو سياسة واجبة لانتشار الإسلام، وإعلاء مناره. وقد يصل بالمسلمين ظرف من الظروف يكون إخفاؤهم لعقيدتهم وإيمانهم خيراً من إعلان ذلك، وفرق كبير بين إخفاء حقيقة الإيمان، والنطق بكلمة الكفر. ولكن ينبغي أن يعلم أن هذا الظرف والمناسبة يحددها النظر الشرعي السليم المبني على اجتهاد صائب صحيح وليس الجبن والخوف من إظهار عقيدة الإسلام وشرائعه. وليس إخفاء الإيمان فضيلة وفريضة للهروب من مكروه فقط بل ولجلب منفعة عامة للمسلمين. وقد فعل هذا محمد بن مسلمة رضي الله عنه بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما أرسله لقتل كعب بن الأشرف (كان كعب بن الأشرف يهودياً، وكان شديد الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يتغزل في نساء الصحابة ويقع في أعراضهم في أشعاره فلما كانت وقعة بدر ذهب إلى مكة وجعل يؤلب المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ناقضاً عهده، فلما عاد إلى المدينة انتدب له الرسول صلى الله عليه وسلم سرية على رأسها محمد بن مسلمة لقتله. وأذن لهم أن يقولوا ما شاءوا من كلام يخدعونه به، فزعموا له أنهم ضاقوا ذرعاً بصحبة النبي وشكوا إليه ما أصابهم من ضنك وشدة في العيش. وطلبوا منه أن يبيعهم طعاماً ويرهنونه أسلحتهم، حتى إذا اطمأن إليهم وخرج معهم بعيداً عن حصنه قتلوه). وكذلك فعل نعيم بن مسعود في غزوة الخندق (نعيم بن مسعود رجل من غطفان أسلم أثناء حصار المشركين للمدينة في غزوة الخندق، فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخذل الكفار ما استطاع قائلاً له: [إن الحرب خدعة] فذهب إلى بني قريظة وكانوا قد تآمروا مع المشركين، ونقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: إن قريشاً إن أصابوا فرصة من المسلمين حاربوا، وإلا فسوف يعودون إلى ديارهم ويتركونكم تواجهون المسلمين وحدكم، ونصحهم ألا يقاتلوا مع قريش حتى يعطوهم رهائن من رجالهم، ثم ذهب إلى قريش وقال لهم: إن بني قريظة ندموا على نقضهم لعهد محمد وأنهم صالحوه على أن يأخذوا منكم رهائن يدفعونها إليه ثم يوالونه عليكم فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، فلما طال بالمشركين المقام، طلبوا من اليهود أن يناجزوا المسلمين معاً، فطلب اليهود منهم رهائن، وأبى المشركون، فتخاذل الفريقان وأرسل الله عز وجل على المشركين ريحاً وجنوداً من الملائكة، فاقتلعت خيامهم وألقت الرعب في قلوبهم فعادوا خائبين). 2- هذا وينبغي التفريق بين الاضطرار إلى قول الكفر، والاضطرار إلى فعل فيه اعتداء على الآخرين، فليس هناك اضطرار لمسلم أن يقتل مسلماً، فليس نفس المضطر بأولى من نفس المقتول. ولذلك نص العلماء على أن من اضطره كفره أو ظالم إلى قتل مسلم وإلا قتله أنه لا يجوز له أن يفعل، لأن نفسه ليست أفضل من النفس التي سيعتدي عليها لينقذ نفسه. وقد نص الإمام ابن القيم رحمه الله في الفوائد إلى أن من اضطر إلى أن تفعل به جريمة اللواط وإلا قتل أنه لا يفعل ولا يمكن من نفسه أحداً، وهذا الأمر ينصرف ولا شك على من اضطر أن يفعل بغيره. وأما من اضطر في عرض أخيه المسلم أو يسبه أو يحكم عليه بالكفر فمسألة فيها نظر والصحيح والله تعالى أعلم أنه يجوز له ذلك. إذ قد سمح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينال من عرضه محمد بن مسلمة وهو في سبيل جلب منفعة ما للمسلمين، وقد سمح الله سبحانه وتعالى للمسلم أن يقول في حقه ما يقول اضطراراً فكيف لا يجوز أن يقدح في عرض المؤمن اضطراراً وهو دون ذلك ولا شك؟.. ولكن مما ينبغي ولكن مما ينبغي التنبيه عليه أن من لوازم ذلك أن يعتذر المسلم لأخيه المسلم مما قد حدث منه اضطراراً. وخلاصة هذا الأمر أن النطق بكلمة الكفر في الفتنة رخصة غيرها أولى منها، وأما قتل مسلم أو الاعتداء على عرضه باسم الاضطرار فغير جائز، وأما سبه أو تكفيره فالصحيح والعلم عند الله تعالى، أنه جائز شريطة الرجوع عن هذا بأول فرصة سانحة. وهنا يجب أن ننبه إلى قوله تعالى: إلا أن المسلم في حالة الضرورة وغيرها يضيق صدراً بالكفر وأهله، ويعلم أن القول الذي اضطر إليه إنما هو حال عارض، ورخصة عابرة، فإذا زال البلاء زالت. ومعنى هذا أن استساغة الفتنة والركون إليها وجعلها نهاية المطاف، وخاتمة السعي كفر بالله تبارك وتعالى وإبطال لجهاد المؤمن وسعيه. ولذلك قال الله تبارك وتعالى في شأن هؤلاء: فوصف الله تبارك وتعالى هذا الصنف الذي يعجز في الفتنة فيلقى عصاه ويستسلم للباطل ويعتبر الفتنة مانعة له من الإسلام والإيمان، كما يعتبر المؤمن عذاب الله في الآخرة مانعاً له من الكفر والطغيان، وصفه تبارك وتعالى بالنفاق إذ أن هذا الصنف نفسه يهرول إلى المؤمنين العاملين المخلصين عند النصر قائلاً: فليكن المؤمن دائماً مع الله، ومع أوليائه في العسر واليسر والمنشط والمكره، فإن أماله البلاء يوماً ومال معه، فليعاود قيامه بأمر الله ودعوته إذا وجد الفسحة والراحة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وصرفه عن ظاهره خطأ واجتهاداً من الأمور التي يرمي بسببها بعض المسلمين إخوانهم بالكفر هو تأويل كلام الله وصرفه عن ظاهره خطأ واجتهاداً. والحق أن هذا من الأمور الدقيقة والخطيرة، وذلك أن هذه المسألة تتعلق بالقلب أكثر مما تعلق بالظاهر. وذلك أن التأويل قد يصدر من الخاطئ المتعمد للإفساد والغواية وتلبيس الحق بالباطل، وهذا كفر والعياذ بالله وقد يصدر من مجتهد لم يظهر له وجه الحق فأول كلام الله وصرفه عن ظاهره. ولا يحدد الفرق بين هذا وهذا إلا علام الغيوب المطلع على السرائر سبحانه وتعالى. ولذلك فالمسارعة إلى تكفير شخص ما صدرت منه فتوى أو رأي جاء على خلاف كلام الله تبارك وتعالى تعجل غير محمود، وإنما الواجب في مثل هذه الأمور التعرف الكامل على مراد المتكلم من كلامه. والغاية التي يقصدها في النهاية وإقامة الحجة عليه إن كان بالإمكان ذلك، وهذا الكلام المجمل لا يحتاج إلى تفصيل. (ا) لكل متكلم مقصد يريده، وفي سبيل ذلك يتخذ الأسلوب الذي يقدر عليه، وقد يخونه الأسلوب وتختلط عليه الكلمات فتحتمل معنى لا يريده أبداً، ولا يقصد إليه، فمن الخطأ كل الخطأ تفسير كلام إنسان ما حسب ما يقتضيه أسلوبه، لا حسب ما يريد هو أن يعبر عنه، ولذلك لا يجوز أن نفسر كلام شخص ما إلا بعد معرفة المعنى الذي يريد التعبير عنه، وليحمل بعد ذلك الأسلوب على المعنى المراد. ولا يقتصر هذا في كلام البشر. بل يجب تطبيق هذه القاعدة نفسها في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. (ب) إذا فهم المعنى الذي يريد المتكلم الوصول إليه، فليكن النظر بعد ذلك في الغاية والهدف الذي سيق المعنى من أجله فقد يكون المعنى في ذاته صواباً، والهدف الذي يريد المتكلم الوصول إليه باطلاً ولا تنس الكلمة العظيمة (كلمة حق أريد بها باطل). فكم من كلام حق في نفسه ولكن قائله ما أراد به إلا الشر والفتنة. وليس هذا مجال التمثيل والتوضيح. (ج) إذا تحدد المعنى والهدف اتضحت السبيل. وليس على المسلم بعد أن رأى عوجاً وانحرافاً إلا أن يقيم الحجة إن أمكنه ذلك، فإن رد أحدهم الحق بعد علمه وكابر وجحد عن علم وبصيرة فهو الزيغ والعياذ بالله. وعلى كل فهذا المجال محفوف بالمخاطر لأنه في غالبه اتهام للنيات. واتهام النيات شيء خطير إن لم ينبن على أسس ثابتة قطعية صريحة، وأما مجرد الشبهات والظواهر وتتبع الأخطاء فكل ذلك لا يجوز أن يحمل مسلماً على تكفير مسلم، ولم يبق إلا إقامة الحجة والأعذار إلى الله وبيان الخطأ دون اللجوء إلى التكفير والتشهير، والحكم أولاً وأخيراً لله رب العالمين العليم بالنيات المطلع على السرائر. ولقد كان هذا الباب، أعني باب تأويل كلام الله وصرفه عن ظاهره، وما يزال أعظم أبواب الشر التي فتحت على المسلمين، فيجب الحذر منه كل الحذر. وقد كان من الأسباب التي ساعدت على التأويل ما يأتي: 1- اللغة العربية بحسب وضعها فيها كثير من الصور البلاغية والبيانية التي تلجأ إلى التمثيل والتشبيه والاستعارة والكناية، وفيها من وجوه المجاز ما فيها. ولقد ساعد هذا على اختلاف الآراء وتباين الأفكار، ليس في الأمور العملية الشرعية وحدها بل وأيضاً في الأمور العقائدية الإيمانية. وليست هذه ثغرة في اللغة العربية أو نقص، وإنما كل اللغات كذلك، وإن كان اللغة العربية أثراها، وأكثرها تصرفاً في القول وتحسيناً في البيان وهذا في حقيقته ميزة وليس بثغرة إذا عرف الأصل الذي تحدثت عنه آنفاً وهو وجوب تفسير كلام المتكلم حسب المعنى الذي يريده لا حسب المعنى الذي يحتمله اللفظ. 2- استغل المبطلون من أعداء الإسلام وأهل الأهواء هذا فلجأوا إلى تحريف الإسلام من داخله بدعوى أن هذا مضمون اللفظ والمعنى المقصود، ولجأوا إلى تحريف الآيات والأحاديث التي تعارض المعنى الخبيث الذي يريدون الوصول إليه. ثم جاء من يحمل كلام الله على معان لا يريدها الله ورسوله جملة وتفصيلاً وبذلك نشأت التأويلات البعيدة وكلها تحت ستار الإسلام. ولذلك فيجب التصدي لكل ذلك والرجوع في فهم الإسلام إلى سلطته الأولى، والقواعد العربية، والالتزام بظاهر اللفظ دائماً، إلا إذا جاء دليل حتمي نعلم به يقيناً أن مقصود المتكلم من كلامه ليس هو ظاهر لفظه وإنما هو معنى آخر. وعلى كل حال فإن أمر المبطل المؤول للإفساد والغواية لا يشتبه بأمر المحق المجتهد المتأول، وذلك على الناقد الخبير، ولذلك فلا يجوز لنا والحالة هذه التعجل في إطلاق لفظ الكفر على من ظهر التأويل في كلامه إذا عرفنا مقصده وغايته وأنها ليست تحريفاً للإسلام ولا إيثاراً للباطل على الحق، ولذلك لم يكفر علماء السلف المعتزلة، والمؤولين من الأشعرية لأن غايتهم كانت دفاعاً عن حوزة الإسلام، وتصدياً للزنادقة والفلاسفة وإن كان هؤلاء العلماء من السلف قد حكموا ونشروا بأن كتب الكلام التي ألفوها في العقيدة (الإسلام) باطلة يجب حرقها ولا يجوز ميراثها. وكلام الإمام الشافعي رضي الله عنه واضح وصريح في هذا، وكذلك كلام الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه. وهذا الموقف الصلب السليم الذي وقفه علماء السنة في كل عصر هو الموقف اللازم في عصرنا الحاضر، حيث كثر المبطلون المؤولون الزاعمون نصر الإسلام والمسلمين. فالرد إلى كتاب الله ورسوله أولاً والتزام بظاهر اللفظ ومعناه العربي وتحريم التأويل ما لم يأت دليل قطعي يبين أن مراد الله ومراد رسوله ليس الظاهر المتبادر وإنما هو المعنى الآخر المؤول. وهذه أمور يجب التمسك بها، وفهمها فهماً جيداً وتعلم تطبيقها على شتى أنواع التأويلات ليكون المؤمن على بصيرة من أمره، ثم بعد ذلك ترك الرمي بالكفر وغيره إلا بعد البيان القطعي الذي لا يقبل المكابرة والجدل. ***************** ********** ****
|